التمدينى السّريع ، وتعقّد العلاقات الاجتماعيّة ، كلّ هذا وغيره سبّب حدوث مشكلات ومسائل جديدة تحتاج الى حلّ إسلامي ، وليس في ظاهر الكتاب ما يشير الى حلّها ، ولا في السنّة الموجودة بأيدي المسلمين ما يكفيهم لحلّها.
وهنا كانت الصّعوبة ، وكان لا بدّ في تذليلها من العثور على ما يملأ فراغ النّصوص التشريعيّة ، وكان لا بدّ أن يكون الحلّ إسلاميّا أيضا ليكون منسجما مع شمول الشّريعة الإسلاميّة وكمالها الّذي لا ريب فيه ، فإنّ ملأ الفراغ التشريعي بما لا يمتّ إلى الإسلام بصلة ، معناه الاعتراف بنقص الشريعة ، مع ان شمول الشريعة وكمالها من أوضح ما اتفقت فيه كلمة المسلمين قاطبة.
وكان الاجتهاد هو الاطروحة المشتملة على كلتا الخصلتين ـ في رأي كثير من فقهاء المسلمين منهم أبو حنيفة وتلميذه أبو يوسف ، ومحمّد بن الحسن الشّيباني ـ فهي من جهة تملأ الفراغ التّشريعي المشار اليه ، ومن جهة أخرى فهي ـ في وجهة نظر أصحابها ـ تستمدّ مشروعيّتها من الإسلام نفسه.
واطروحة الاجتهاد تتلخّص ـ في رأي هذه المدرسة ـ في استعمال القياس والاستحسان للوصول إلى أحكام الشّرع ، ومن وظيفة المجتهد أن يرجع في أخذ الحكم الشّرعي إلى الكتاب والسّنّة أولا ، فإن وجد فيهما ما يفي بمقصوده والّا قال في المسئلة بما يقتضيه رأيه مستعينا في ذلك بالقياس والاستحسان.
أمّا فقهاء مذهب أهل البيت عليهم السلام فقد شجبوا (١) هذه الطّريقة شجبا صارما تبعا لأئمتهم عليهم السلام واعتبروا اتّخاذ هذا الأسلوب في التّشريع إدخالا لغير الإسلام فيه ، ورأوا أنّ اللّجإ الى هذه الطّريقة اعتراف بنقص الشّريعة وعدم وفائها بما يحتاجه النّاس ، وأنّ نسبة هذه الطريقة إلى الإسلام غير مؤيّدة بدليل ، مع أنّها اتّهام له بالتّناقض ، فإنّ ادّعائه الشّمول والكمال من جهة ، مع تشريعه لطريقة الاجتهاد الّتي ليست إلّا اعترافا. بالنّقص في التشريع من جهة أخرى جمع بين متناقضين ، ورسالة الله أسمى من ان تصاب بشيء من ذلك.
__________________
(١) شجبه شجبا : أهلكه ـ المنجد