أنه لما طال فكره في القرآن وكثر ضجره منه ، وضرب (١) له الأخماس من رأيه في الأسداس (٢) ، فلم يقدر على أكثر من قوله : (إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) (المدثر : ٢٥) عنادا وجهلا به ، وذهابا عن الحجة ، وانقطاعا دونها.
ثم اعلم أن عمود البلاغة التي تجتمع لها هذه الصفات هو وضع كل نوع من الألفاظ التي تشتمل عليها فصول الكلام موضعه الأخص الأشكل به ، الذي إذا أبدل مكانه غيره جاء منه ، إما تبدل (٣) المعنى الذي يفسد به الكلام ، أو إذهاب الرونق الذي تسقط به البلاغة ، وذلك أن في الكلام ألفاظا مترادفة متقاربة المعاني في زعم أكثر الناس ، كالعلم والمعرفة ، والشح والبخل ، والنعت والصفة ، وكذا بلى ونعم ، ومن وعن ، ونحوها من الأسماء والأفعال والحروف ؛ والأمر فيها عند الحذاق بخلاف ذلك ، لأن (٤) كل لفظة منها خاصة تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها ، وإن اشتركا في بعضها.
ولهذا قال أبو العالية (٥) في قوله تعالى : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) (الماعون : ٥) إنه الذي ينصرف ولا يدري عن شفع أو وتر ، فردّ عليه الحسن بأنه لو كان كذلك لقال : «الّذين هم في صلاتهم» فلم يفرّق أبو العالية بين «في» ، و «عن» حتى تنبّه له الحسن وقال : المراد به إخراجها عن وقتها.
(فإن قيل) : فهلاّ جعل في كل سورة نوعا من الأنواع؟ (قيل) : إنما أنزل القرآن على هذه الصفة من جمع أشياء مختلفة المعاني في السورة الواحدة ، وفي الآي المجموعة القليلة العدد ، ليكون أكثر لفائدته ، وأعمّ لمنفعته ، ولو كان لكل باب منه قبيل ، ولكل معنى سورة مفردة ، لم تكثر [عائدته] (٦) ، ولكان (٧) الواحد من الكفار المنكرين والمعاندين إذا سمع
__________________
لعنه الله فعن ابن عباس رضياللهعنه قال : «دخل الوليد بن المغيرة على أبي بكر فسأله عن القرآن فلما أخبره خرج على قريش فقال يا عجبا لما يقول ابن أبي كبشة فو الله ما هو بشعر ولا بسحر ولا بهذي من الجنون وإن قوله لمن كلام الله» وقد أتاه أبو جهل لعنه الله إثر مقالته ليحرضه على النبي صلىاللهعليهوسلم فلما فكّر قال : إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره ، فنزلت (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً) [المدّثّر : ١١] (ابن كثير ، التفسير ٤ / ٤٧٢).
(١) في المخطوطة (وضربه).
(٢) في المخطوطة (الأخماس).
(٣) في المخطوطة (تبديل).
(٤) في المخطوطة (وإن).
(٥) الرياحي تقدم التعريف به في ١ / ٢٩٩.
(٦) ساقطة من المخطوطة.
(٧) في المخطوطة (ولو كان).