وبنى على ذلك مذهب الاعتزال في قوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣) قال (١) : هو دليل عن نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ؛ وهذا الاستدلال حكاه إمام الحرمين (٢) في «الشامل» عن المعتزلة وردّ عليهم بقوله تعالى لليهود : (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة : ٩٤ ، ٩٥) ثم أخبر عن عامة الكفرة أنهم يتمنون الآخرة فيقولون : (يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ) (الحاقة : ٢٧) يعني الموت.
ومنهم من قال : لا تنفي الأبد ، ولكن (٣) إلى وقت ، بخلاف (٤) قول المعتزلة ، وأن (٥) النفي ب «لا» أطول من النفي ب «لن» ؛ لأنّ آخرها ألف ، وهو حرف يطول فيه النّفس ، فناسب طول المدة بخلاف لن ولذلك قال تعالى : (لَنْ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣) وهو مخصص (٦) بدار الدنيا. وقال : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣) وهو [١٤٤ / أ] مستغرق لجميع أزمنة الدنيا والآخرة ، وعلّل بأن الألفاظ تشاكل المعاني ولذلك اختصّت لا بزيادة مدة. وهذا ألطف من رأي المعتزلة ، ولهذا أشار ابن الزملكانيّ (٧) في «التبيان» بقوله : «لا» تنفي ما بعد ، «ولن» تنفي ما قرب ، وبحسب المذهبين أوّلوا الآيتين : قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) (البقرة : ٩٥) (وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً) (الجمعة : ٧).
ووجه القول الثاني أن (لا يَتَمَنَّوْنَهُ) جاء بعد الشرط في قوله [تعالى] : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) (الجمعة : ٦) وحرف الشرط يعمّ كلّ الأزمنة ،
__________________
(١) الكشاف ٢ / ٨٩ عند تفسير الآية من سورة الأعراف.
(٢) هو عبد الملك بن أبي عبد الله الجويني ، إمام الحرمين تقدم ذكره في ١ / ٢٣ ، وكتابه «الشامل في أصول الدين» طبع بتحقيق هلموت كلويفر بدار الغرب في القاهرة عام ١٣٧٩ ه / ١٩٥٩ م ، وطبع بتحقيق علي سامي النشار ، وسهير مختار ، وفيصل بدير عون بمنشأة المعارف في الاسكندرية عام ١٣٩١ ه / ١٩٧١ م.
(٣) في المخطوطة (لكي).
(٤) في المخطوطة (عكس).
(٥) في المخطوطة (ان النفي).
(٦) في المخطوطة (مخصوص).
(٧) هو عبد الواحد بن عبد الكريم بن خلف تقدم التعريف به في ١ / ١٣٥ و ٢ / ٤٥٢ ، وكتابه «التبيان في علم البيان المطلع على إعجاز القرآن» طبع بتحقيق أحمد مطلوب ود. خديجة الحدثي في بغداد ، بمطبعة العاني عام ١٣٨٣ ه / ١٩٦٤ م.