وأما الوجه الثالث : فقد سبق إبطاله فى إبطال الوجه الأول.
والأقرب فى ذلك أن يقال :
نحن لا ننكر صحة إطلاق لفظ الهداية والإضلال بالمعنى المذكور فيما ذكرناه من النصوص ، وما ذكروه ، غير أن النزاع فيما وراء ذلك ؛ وهو أنه هل هو حقيقة؟ أو بطريق المجاز؟ وقد بينا جهة الحقيقة فيما ذكرناه من ضرورة تبادره إلى الفهم عند إطلاق اللفظ ، بخلاف ما عداه ؛ وهو / أمارة الحقيقة ؛ فإن الغالب إنما هو اشتهار اللفظ فى جهة الحقيقة دون جهة المجاز.
وأما الاحتمال الثانى :
فلا نسلم ورود لفظ الهداية بمعنى الدعاء. وقوله ـ تعالى ـ : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ) (١) الآية ؛ فالمراد بها الهداية بمعنى خلق الهدى ؛ فإنهم كانوا آمنوا لما رأوا الآية الباهرة ، من ظهور الناقة من باطن الصخرة الجامدة وارتسموا بما رسمه لهم صالح ، من قسمة الماء بين الناقة وبينهم ، على ما قال ـ تعالى ـ : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) (٢). ثم إنهم عادوا لما نهوا عنه ، واستحبوا الضلالة على الهدى.
وإن سلمنا أن المراد من الآية ما ذكروه من الاحتمال ، غير أنه يمتنع حمل بعض ما ذكرناه من النصوص عليه ؛ لأنه أثبت الهداية ، والإضلال ، وجعلهما متقابلين حيث قال : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ) (٣). والشرح ، والضيق متقابلان ، والشرح ملازم للهداية ، والضيق ملازم للإضلال ؛ فالملزومان متقابلان.
والهداية بمعنى الدعاء ، وشرع سبل الخيرات ، لا تقابل الإضلال بالمعنى المذكور ؛ لتصور اجتماعهما.
ثم : وإن سلمنا إمكان حمل ما ذكرناه من النصوص عليه. غير أنه لا بد له من دليل ، ضرورة أن ما ذكرناه حقيقة على ما تقدم.
__________________
(١) سورة فصلت ٤١ / ١٧.
(٢) سورة الشعراء ٢٦ / ١٥٥.
(٣) سورة الأنعام ٦ / ١٢٥.