الموعظة الذي يكون بغير تصنّع إنما هو على هذه الوجوه وما أشبهها.
ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعالى : (وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (١) ، ذكره بعض المفسرين ، وذلك أنه لما ألقى الله الإيمان في قلوبهم حضروا عند ملكهم دقيانوس الكافر ، فتحركت فأرة أو هرة خاف لأجلها الملك ، فنظر الفتية بعضهم إلى بعض ، ولم يتمالكوا أن قاموا مصرحين بالتوحيد ، معلنين بالدليل والبرهان ، منكرين على الملك نحلة الكفر ، باذلين أنفسهم في ذات الله ، فأوعدهم ثم أخلفهم ، فتواعدوا الخروج إلى الغار ، إلى أن كان منهم ما حكى الله تعالى في كتابه ، فليس في ذلك صعق ولا صياح ، ولا شطح ، ولا تغاش مستعمل ، ولا شيء من ذلك ، وهو شأن فقرائنا اليوم.
وخرّج سعيد بن منصور في تفسيره عن عبد الله بن عروة بن الزبير ، قال : قلت لجدّتي أسماء : كيف كان أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا قرءوا القرآن؟ قالت : كانوا كما نعتهم الله ، تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قلت : إن ناسا هاهنا إذا سمعوا ذلك تأخذهم عليه غشية. فقالت : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وخرّج أبو عبيد من أحاديث أبي حازم. قال : مرّ ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله ، فقال : ما هذا؟ فقالوا : إذا قرئ عليه القرآن ، أو سمع الله يذكر خرّ من خشية الله. قال ابن عمر : والله إنا لنخشى الله ولا نسقط. وهذا إنكار.
وقيل لعائشة رضي الله عنها : إن قوما إذا سمعوا القرآن يغشى عليهم. فقالت : إن القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال ، ولكنه كما قال الله تعالى : (تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم القرآن فيصعقون فقال : ذلك فعل الخوارج.
وخرّج أبو نعيم على جابر بن عبد الله أن ابن الزبير رضي الله تعالى عنه قال : جئت أبي ، فقال : أين كنت؟ فقلت : وجدت أقواما يذكرون الله فيرعد أحدهم حتى يغشى عليه من
__________________
(١) سورة : الكهف ، الآية : ١٤.
(٢) سورة : الزمر ، الآية : ٢٣.