وحكي أن شابا كان يصحب الجنيد رضي الله عنه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا سمع شيئا من الذكر يزعق ، فقال له الجنيد يوما : إن فعلت ذلك مرة أخرى لم تصحبني ، فكان إذا سمع شيئا يتغير ، ويضبط نفسه حتى كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة ، فيوما من الأيام صاح صيحة تلفت نفسه ، فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف ، لأنه لو كانت صيحته الأولى غلبته ، لم يقدر على ضبط نفسه ، وإن كان بشدة ، كما لم يقدر على ضبط نفسه الربيع بن خيثمة ، وعليه أدبه الشيخ حين أنكر عليه ووعده بالفرقة ، إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا رعونة النفس ، فلما خرج الأمر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفوا لا حرج عليه فيها إن شاء الله.
بخلاف هؤلاء القوم الذين لم يشموا من أوصاف الفضلاء رائحة ، فأخذوا بالتشبه بهم ، فأبرز لهم هواهم التشبه بالخوارج ، ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد المذموم ، ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر والدوران والضرب على الصدور ، وبعضهم يضرب على رأسه ، وما أشبه ذلك من العمل المضحك للحمقى ، لكونه من أعمال الصبيان والمجانين ، المبكي للعقلاء ، رحمة لهم ، إذ لم يتّخذ مثل هذا طريقا إلى الله وتشبها بالصالحين.
وقد صح من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال : «وعظنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم موعظة بليغة ذرفت منها العيون ، ووجلت منها القلوب» (١) الحديث ، فقال الإمام الآجري العالم السني أبو بكر رضي الله عنه : ميزوا هذا الكلام ، فإنه لم يقل : صرخنا من موعظة ، ولا طرقنا على رءوسنا ، ولا ضربنا على صدورنا ، ولا زفنّا ولا رقصنا ، كما يفعل كثير من الجهال يصرخون عند المواعظ ويزعقون ، ويتناشون ، قال : وهذا كله من الشيطان يلعب بهم ، وهذا كله بدعة وضلالة ، ويقال لمن فعل هذا : اعلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم أصدق الناس موعظة ، وأنصح الناس لأمته ، وأرق الناس قلبا ، وخير الناس من جاء بعده ـ لا يشك في ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ولا زعقوا ولا رقصوا ولا زفنوا ، ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بين يدي رسول
__________________
(١) تقدم تخريجه ص : ٣٣ ، الحاشية : ٢.