الْفِرارُ) (١) لا دليل فيه على هذا المعنى ، وكذلك قوله تعالى : (إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا) (٢) أين فيه أنهم قاموا يرقصون ، أو يزفنون ، أو يدورون على أقدامهم؟ ونحو ذلك ، فهو من الاستدلال الداخل تحت هذا الجواب.
ووقع في كلام المجيب لفظ السماع غير مفسر ، ففهم منه المحتج أنه الغناء الذي تستعمله شيعته ، وهو فهم عموم الناس ، لا فهم الصوفية ، فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يخضع لها القلب ، ويلين لها الجلد ، وهو الذي يتواجدون عنده التواجد المحمود ، فسماع القرآن عندهم سماع ، وكذلك سماع السنّة وكلام الحكماء والفضلاء حتى أصوات الطير وخرير الماء ، وصرير الباب ، ومنه سماع المنظوم أيضا إذا أعطى حكمة ، ولا يستمعون هذا الأخير إلا في الفرط ، وعلى غير استعداد وعلى غير وجه الالتذاذ والإطراب ، ولا هم ممن يداوم عليه أو يتخذه عادة ، لأن ذلك كله قادح في مقاصدهم التي بنوا عليها.
قال الجنيد : إذا رأيت المريد يحب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة ، وإنما لهم من سماعه إذا اتفق وجه الحكمة إن كان فيه حكمة ، فاستوى عندهم النظم والنثر ، وإن أطلق أحد منهم السماع ، فمن حيث فهم الحكمة لا من حيث يلائم الطباع لأن من سمعه من حيث يستحسنه فهو متعرض للفتنة فيصير إلى ما صار إليه السماع الملذ المطرب.
ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ، ما ذكر عن أبي عثمان المغربي أنه قال : من ادعى السماع ولم يسمع صوت الطير وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع. وقال الحصري : أيش أعمل بسماع ينقطع ممن يسمع منه؟ وينبغي أن يكون سماعك سماعا متصلا غير منقطع. وعن أحمد بن سالم قال : خدمت سهل بن عبد الله التستري سنين ، فما رأيته تغير عند سماع شيء يسمعه من الذكر أو القرآن أو غيره ، فلما كان في آخر عمره قرئ بين يديه : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ) (٣) تغير وارتعد وكاد يسقط ، فلما رجع إلى حال صحوه سألته عن ذلك فقال : يا حبيبي ضعفنا. وقال السلمي : دخلت على أبي عثمان المغربي وواحد يستقي الماء من البئر على بكرة ، فقال لي : يا أبا عبد الرحمن!
__________________
(١) سورة : الكهف ، الآية : ١٨.
(٢) سورة : الكهف ، الآية : ١٤.
(٣) سورة : الحديد ، الآية : ١٥.