العلم ويلتمس تلك الحظوة لديهم حتى كان ذلك سبب سجنه وحتفه ، فوقع عكس ما كان يؤمله ، وما لم يخطر له ببال ، وهذا ما تكشف عنه الحكايات المذكورة في مصارد ترجمته ، إذا صحت تلك الحكايات. فقد ذكر صاحب روضات الجنات أنه كان في مبدأ أمره حدادا ، فعمل بيده محبرة صغيرة من الحديد ، وجعل لها قفلا عجيبا ، ولم يزد وزن تلك المحبرة وقفلها قيراطا واحدا ، فأهداها إلى ملك زمانه ، ولما رآه الملك وندماء مجلسه الرفيع لم يزيدوا على ترحيب الرجل على صنعته ، فاتفق أنه كان واقفا في الحضور إذ دخل رجل آخر ، فقام الملك احتراما لذلك الرجل ، وأجلسه مقامه ، فسأل عنه السكاكي ، فقيل له : إنه من جملة العلماء ، فتفكر السكاكي في نفسه : أنه لو كان من هذه الطائفة لكان بلغ ما كان يطلبه من الفضل والشرف والقبول ، وخرج من ساعته إلى المدرسة لتحصيل العلوم ، وكان إذ ذاك قد ذهب من عمره ثلاثون سنة (١) ...".
فاتجه للدرس وتحصيل العلم ، وتذكر المصادر في هذا المجال أنه لقى في بدء تعليمه مشقة كبيرة وعنتا عظيما في الفهم والأخذ عن أساتذته حتى إنه ترك المدرسة وأساتيذة ، إلا أنه عاود الدرس مرة ثانية فأفلح بعد أن أجهد نفسه ، فكان أن أحسن العلوم وألف فيها وذاع صيته ، وأصبح علما من أعلام عصره ورجال فنه وعلمه ، وتفنن في علوم شتى وعانى مواد مختلفة ، فمن جملة ما عانى النجوم وعلومها ، ولإتقانه العلوم وشهرته بها قامت له صلات مع حكام زمانه ، وكان من جملة علماء السلطان خوارزمشاه ، وقد التقى به ، وقامت معرفة العلم مقام الصلة بينهما (٢). كما أن السكاكي بسبب تفننه في هذه العلوم وقع في كيد الوزير" حبش عميد" وزير" جغتاي خان ابن جنكيز خان" وذلك لقراءة طالع ، وعمل قام به السكاكي ، فحقد عليه هذا الوزير ، الأمر الذي سبب حبس السكاكي (٣)
ويذكر صاحب الفوائد البهية أن (حبش عميد) وزير (جغتاي خان بن جنكيز خان) لم يزل يسعى لدى جغتاي في حبس السكاكي وإغراء السلطان به حتى حبسه ومات في حبسه ، قال صاحب الفوائد : فوجد" حبش عميد" موقع السعاية وقال لجغتاي : لما كان قادرا على إيجاد مثل هذه الأمور فلا عجب منه لو انتزع
__________________
(١) المصدر السابق ٨ : ٢٢١.
(٢) مقدمة مفتاح العلوم / تحقيق أكرم عثمان يوسف ، ص ١٧.
(٣) الفوائد البهية : ٢٣٢.