(٣) إن مما يدل على أن مباحث هذه العلوم ليست متمايزة ، أن بعض المؤلفين أدخل المجاز العقلي في علم البيان ، بينا غيرهم أدخله في المعاني ، كذلك نجد جماعة أدخلوا التذييل والاحتراس والاعتراض والحشو في البديع ، وأدمجه غيرهم في المعاني وجعلوه أقساما للإطناب ـ فلو كان هناك حدود واضحة تميز قسما من قسم لما جاء مثل هذا الاختلاط والارتباك في تفريع هذه المسائل ووضعها في المواضع المناسبة لها (١).
(٤) إن الذي ينبغي أن يعول عليه في التقسيم شيء آخر هو ما أفصح عنه عبد القاهر في" الدلائل" ؛ إذ قال في الصفحة التاسعة والعشرين بعد الثلثمائة : اعلم أن الكلام الفصيح ينقسم إلى قسمين : قسم تعزى المزية والحسن فيه إلى اللفظ ، وقسم يعزى ذلك فيه الى النظم ؛ فالقسم الأول الكناية والاستعارة والتمثيل الكائن على حد الاستعارة ، وكل ما كان فيه على الجملة مجاز واتساع وعدول باللفظ عن الظاهر ، فما من ضرب من هذه الضروب إلا وهو إذا وقع على الصواب ، وعلى ما ينبغي ، أوجب الفضل والمزية ، فإذا قلت : هو كثير رماد القدر ، كان له موقع وحظ من القبول لا يكون إذا قلت : هو كثير القرى والضيافة ، وكذلك إذا قلت : رأيت أسدا كان له مزية لا تكون إذ قلت رأيت رجلا يشبه الأسد ويساويه في الشجاعة ، وكذلك إذا قلت : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى كان له موقع لا يكون إذا قلت : أراك تتردد في الذي دعوتك إليه ، كمن يقول : أخرج أو لا أخرج ، فيقدم رجلا ويؤخر أخرى.
وقال في الصفحة السادسة والأربعين بعد الثلثمائة مثل ذلك ، وقال في الصفحة الثانية بعد المائتين : الكلام على ضربين : ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، وذلك إذا قصدت أن تخبر عن زيد مثلا بالخروج على الحقيقة فقلت : خرج زيد ، وضرب آخر لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده ، ولكن يدلك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة ، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانية تصل بها إلى الغرض ، ومدار هذا الأمر على الكناية والاستعارة والتمثيل ، وقد مضت الأمثلة فيها مشروحة مستقصاة. وقال في الصفحة الثامنة والسبعين : وجملة الأمر أن هاهنا كلاما حسنه للفظ دون النظم ، وآخر حسنه للنظم دون اللفظ ، وثالثا قرى
__________________
(١) من أوضح الشواهد الدالة على ذلك ما صنعه البلاغيون في دراسة الالتفات ، حيث درسه بعضهم في المعاني وبعضهم في البديع ، بل ودرسه بعضهم أيضا في علم البيان.
وانظر مبحث الالتفات عند الطيبي في رسالتي للماجستير : الإمام الطيبي : تجديداته وجهوده البلاغيه. ط المكتبة التجارية. مكة المكرمة ص ٢٢١.