(٣) أن عبد الله بن المعتز ، وقدامة بن جعفر ، وصاحب الصناعتين وابن رشيق في العمدة أدخلوا في البديع مباحث البيان ، فجعلوا من البديع : الاستعارة والمجاز والكناية والتعريض ، وكذا عبد القاهر في أسرار البلاغة ؛ إذ يقول في الصفحة الثالثة عشرة : وأما الطباق ، والاستعارة ، وسائر أقسام البديع فكونها معنوية أجلى وأظهر إلى آخر ما قال.
(٤) أن في قول الخطيب القزويني في التلخيص : وكثير من الناس يسمى الجميع علم البيان ، وفي قول شراحه لما في كل من معناه اللغوي وهو الظهور ، وقوله : ومنهم من يسمي الأخيرين علم البيان ـ أي كما وقع للزمخشري في الكشاف ـ وقوله : والثلاثة علم البديع : ، ـ أي كما يستعمله صاحب الكشاف كثيرا في تفسيره ـ دليلا على أن التقسيم إلى معان وبيان وبديع لم يقل به أحد قبل السكاكي إذ لم يصرح بعزوه لأحد. وأما أن الدراية لا تؤيده فلوجوه أيضا :
(١) أن الثمرة المستفادة من علم المعاني : وهي معرفة أحوال اللفظ التي بها يطابق مقتضى الحال ، تستفاد أيضا من علم البيان والبديع ؛ لأنا لا نعبر باستعارة ولا كناية إلا إذا اقتضاها المقام ، فنوازن بين عدة تعبيرات ، ونرى أنسبها للحال ، بمراعاة حال السامع أو السامعين فنعبر به.
(٢) أنه كما يصدق هذا على المعاني والبيان يصدق أيضا على البديع ؛ فالجمال الذي يوجد في التورية من حيث دقة التعبير ولطفه لا يقل عن الجمال الذي يوجد في الكناية ، والإبداع الذي يوجد في الطباق والتقسيم ليس بأقل مما يوجد في الاستعارة. ودليلنا على ذلك أن عبد الله بن المعتز لما وضع علم البديع جعل من أنواعه الاستعارة والتمثيل والكناية ، وسوّى بينها وبين بقية أنواع البديع التي ذكرها ، وسار على نهجه قدامة وأبو هلال وابن رشيق فلم يقولوا بأن بعضا منها يزيد على بعض في الفصاحة والبلاغة. فمن أين أتى السكاكي بهذا التفاوت ، وجعل بعضا منها فيما سماه البيان ، وبعضا فيما سماه البديع وبعضا منها تحسينه ذاتي ، وبعضا تحسينه عرضي ؛ إنا لنعلم أن من كان قبله ليس بأقل منه رسوخا في نقد الكلام وبيان غثه من سمينه ، وجيده من رديئه ، فكيف قد خفى هذا على جلة العلماء مدى القرون الطوال ؛ فجاء السكاكي وكشفه ، اللهم إنا لا نجد وجها لصحة هذا الكشف الجديد ، ولو كنا وجدناه لما شككنا في صحته ، إذ لسنا من القائلين بتلك النظرية : ما ترك الأول للآخر شيئا ؛ إذ لو صحت ما اخترع جديد ، ولا تقدم علم ولا تحسنت صناعة.