ونحن نوافق الشيخ المراغي في ذلك تمام الموافقة ؛ إذ لا ضرورة لذلك التقسيم الذي استحدثه السكاكي ، وتكلف لتطبيقه أيّما تكلف ، مخالفا بذلك أئمة البلاغة والفصاحة والبيان ، الذين لم يفرقوا في كلامهم بين تلك الألفاظ.
وهذا ما يقرره عبد القاهر ـ غير مفرق بين تلك المصطلحات (البلاغة ، والفصاحة ، والبيان) ـ حينما يقول : " فصل تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيان والبراعة ، وكل ما شاكل ذلك ، مما يعبر به عن فضل القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراض والمقاصد ، ومن المعلوم ألا معنى لهذه العبارات وسائر ما يجري مجراها مما يفرد فيه اللفظ بالنعت والصفة وينسب فيه الفضل والمزية إليه دون المعنى .... ، غير أن يؤتى المعنى من الجهة التي هي أصح لتأديته ، ويختار له اللفظ الذي هو أخص به وأكشف عنه ... وإذا كان هذا كذلك فينبغي أن ينظر إلى الكلمة قبل دخولها في التأليف ... هل يتصور أن يكون بين اللفظتين تفاضل في الدلالة ، حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت له من صاحبتها ، على ما هي موسومة به ، حتى يقال : إن (رجلا) أدل على معناه من (فرس) على ما سمى به؟ وحتى يتصور في الاسمين الموضوعين لشيء واحد أن يكون هذا أحسن نبأ عنه وأبين عن صورته من الآخر ... وهل يقع في وهم ـ وإن جهد ـ أن تتفاضل الكلمتان المفردتان من غير أن ينظر إلى مكان تقعان فيه من التأليف والنظم بأكثر من أن تكون هذه مألوفة مستعملة وتلك غريبة وحشية؟ أو أن تكون حروف هذه أخف ، وامتزاجها أحسن؟ ومما يكد اللسان أبعد .... وهل قالوا : لفظة متمكنة ومقبولة ، وفي خلافه : قلقة ونابية ومستكرهة ، إلا وغرضهم أن يعبروا بالتمكن عن حسن الاتفاق بين هذه وتلك من جهة معناها ، وبالقلق والنبو عن سوء التلاؤم ، وأن الأولى لم تلق بالثانية في معناها ، وأن السابقة لم تصلح أن تكون لفقا للتالية في مؤداها؟ " ويعرض عبد القاهر أمثلة يدلل بها على ذلك (١).
أما ما أورده الشيخ المراغي عن عبد القاهر تحت قوله : " إن الذي ينبغي أن يعوّل عليه في التقسيم شيء آخر ... إلخ.
فنحن نرى أن عبد القاهر لم يرد من ذلك تقسيم علوم البلاغة أو الفصاحة إلى ما يرجع حسنه للفظه ، وما يرجع حسنه لنظمه ؛ بل إن مراده من ذلك هو مجرد إبداء تلك
__________________
(١) عبد القاهر الجرجاني ، دلائل الإعجاز ـ تصحيح الشيخ محمد عبده ، والشيخ محمد محمود الشنقيطي ، مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده ، ص ٤٤ ـ ٤٥.