ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)(١) ، كيف تجد صدره يصف أهل الكتاب بالعلم على سبيل التوكيد القسمي ، وآخره ينفيه عنهم ، حيث لم يعملوا بعلمهم ، ونظيره في النفي والإثبات : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)(٢) ، وقوله : (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ)(٣) فيسوقون الكلام إلى هذا مساقه إلى ذلك ، وهكذا قد يقيمون من لا يكون سائلا مقام من يسأل ، فلا يميزون في صياغة التركيب للكلام بينهما ، وإنما يصبون لهما في قالب واحد ، إذا كانوا قدموا إليه ما يلوح مثله للنفس اليقظى بحكم ذلك الخبر ، فيتركها مستشرفة له استشراف الطالب المتحير ، يتميل بين إقدام للتلويح ، وإحجام لعدم التصريح ، فيخرجون الجملة إليه مصدرة بأن ، ويرون سلوك هذا الأسلوب في أمثال هذه المقامات من كمال البلاغة ، وإصابة المحزّ ، أو ما ترى بشارا كيف سلكه في رائيته (٤) :
بكّرا صاحبيّ قبل الهجير ... |
|
إنّ ذاك النّجاح في التّبكير |
حين استهواه التشبه بأئمة صناعة البلاغة المهتدين بفطرتهم إلى تطبيق مفاصلها ،
__________________
(١) سورة البقرة ، الآية : ١٠٢.
(٢) سورة الأنفال ، الآية : ١٧.
(٣) سورة التوبة الآية : ١٢.
(٤) بشار بن برد بن يرجوخ ، العقيلي بالولاء ، ولد بالبصرة ، ونشأ في بني عقيل ، اختلف إلى البوادى لاكتساب اللغة ، وكان أعمى ، هجا الخليفة فأمر صاحب شرطته ، فضربه بالسوط حتى مات سنة ١٦٧ ه. وقد أوفى على السبعين من العمر. انظر : الأغاني : ٣ / ١٢٩ ٢٤٥ ، وفيات الأعيان : ١ / ١٢٥ ، تجريد الأغاني : ٣٧٢ ، الشعر والشعراء ٧٦١.
والبيت من الخفيف وهو في ديوانه (٣ / ٢٠٣) ، ودلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني (٢٧٢ ، ٣١٦ ، ٣٢٣) ، والإشارات للجرجاني ص ٣١ والهجير : من الزوال إلى العصر أو شدة الحر.
والشاهد أن في الشطر الأول يلوح بالثاني ، ولهذا أتى به مؤكدا.