بناء على جهلهم أن الرسول يمتنع أن يكون بشرا ، أو ما تسمع في موضع آخر كيف تجد ما يحكى عنهم هناك ، يرشح بما يتلوث به صماخك من تقرير جهلهم هذا ، وهو : (ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ)(١) وما أعجب شأن المشركين؟ ما رضوا للنبي أن يكون بشرا ، ورضوا للإله أن يكون حجرا ، وأما قول الرسل لهم : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٢) فمن باب المجاراة ، وإرخاء العنان مع الخصم ليعثر حيث يراد تبكيته ، كما قد يقول من يخالفك فيما ادعيت : إنك من شأنك كيت وكيت ، فأنت تقول : نعم ، إن من شأني كيت وكيت ، الحق في يدك هناك ، ولكن كيف يقدح في دعواي هاتيك؟ وعلى هذا ، ما من موضع يأتي فيه النفي والاستثناء إلا والمخاطب عند المتكلم مرتكب للخطأ مع إصرار ، إما تحقيقا ، إذا أخرج الكلام على مقتضى الظاهر ، وإما تقديرا ، إذا أخرج لا على مقتضى الظاهر ، كقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ* إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ)(٣) لما كان النبي ، عليه الصلاة والسّلام ، شديد الحرص على هداية الخلق ، وما كان متمناه شيئا سوى أن يرجعوا عن الكفر ، فيملكوا زمام السعادة ، عاجلا وآجلا ، ومتى رآهم لم يؤمنوا تداخله ، عليه الصلاة والسّلام ، من الوجد والكآبة ما كاد يبخع (٤) له ، حتى قيل له : (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا)(٥) ، ويتساقط ، عليه الصلاة والسّلام ، حسرات على توليهم وإعراضهم عن الحق ، وما كانت شفقته عليهم تدعه يلقي حبلهم على غاربهم ليهيموا في أودية الضلال ، بل كانت تدعوه ، عليه الصلاة والسّلام ، أن يرجع إلى تزيين الإيمان لهم ، عوده على بدئه ، عسى أن يسمعوا
__________________
(١) سورة يس الآية ١٥.
(٢) سورة إبراهيم الآية ١١.
(٣) سورة فاطر الآيتان ٢٢ ـ ٢٣.
(٤) بخع نفسه يبخعها بخعا وبخوعا : قتلها غما أو غيظا.
(٥) سورة الكهف الآية : ٦.