فلما طرحت على الشيخ فكر فيها ساعة ثم قال : غريبة والله! هذا يصف راعيا بصلابة عصاه أنه يضرب الإبل ليتخير لها المرعى ، فقد دمّاها : أي يجعلها مثل الدمى ، إذا أرادت رشدا : وهو حبّ الرشاد ، وهو أغواها : رعاها في حبّ ، يود أن الله قد أفناها : أي أطعمها حبّ الفنا وهو عنب الثعلب. فمضى تلميذه فعرّف الرجل العراقي فلم يبت الرجل في المعرة (١).
فصل
(في ذكر حرمته عند الملوك والخلفاء والأمراء والوزراء)
وما زالت حرمة أبي العلاء في علاء وبحر فضله موردا للوزراء والأمراء ، وما علمت أن وزيرا مذكورا وفاضلا مشهورا مرّ بمعرة النعمان في ذلك العصر والزمان إلا وقصده واستفاد منه ، أو طلب شيئا من تصنيفه ، أو كتب عنه. وسيأتي في أثناء فصول هذا التصنيف ما يدل على علو مرتبته وقدره المنيف.
وقد كان المستنصر المتولي على مصر أحد العبيديين الذين ادعوا الخلافة بذل لأبي العلاء ما ببيت المال بمعرة النعمان من الحلال ، فلم يقبل منه شيئا ، وسنذكر ذلك في موضعه. وكذلك داعي دعاتهم بمصر أبو نصر هبة الله بن موسى المؤيد في الدين حين بلغه أن الذي يدخل لأبي العلاء في السنة من ملكه نيف وعشرون دينارا ، كتب إلى تاج الأمراء ثمال ابن صالح ، وكان إذ ذاك نايبا عن العبيديين بحلب وبمعرة النعمان بأن يجري له ما تدعو إليه حاجته بجميع مهامه وأسبابه ، وما يحتاج إليه مما هو بلغة له من ألذ الطعام ، وأن يضاعف حرمته ويرفع منزلته عند الخاص والعام ، فامتنع من قبول ذلك ، وسنذكره أيضا في موضعه عند الحاجة إلى ذكره.
__________________
(١) ورد البيتان الأول والثاني في «كتاب العصا» لأسامة بن منقذ في سلسلة نوادر المخطوطات ، وشرحها ثمة : قوله «بضربة» أي بسيرة ، قال الله تبارك وتعالى (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) : سافرتم. وقوله «دماها» أي تركها كالدمى ، واحدتها دمية وهي الصور في المحاريب. وقوله «أغواها» أي رعاها الغواء ، وهو نبت تسمن عليه الإبل.