ومن هؤلاء الناس أبو العلاء المعري ، فإنه لذهنه المتوقد وذكائه المفرط سار في ميدان الدعوى وأبعد في الجولان فيه ، حتى أدّاه ذلك أن يقول بيته المشهور :
وإني وإن كنت الأخير زمانه |
|
لآت بما لم تستطعه الأوائل |
وما زال يجدّ في ذلك إلى أن وقع في وادي الحيرة وهوى في هوة الشكوك والأوهام ، فكان يذهب تارة إلى التسليم بالنبوات واعتقاد الحشر والمعاد وأن هناك جنة ونارا وثوابا وعقابا ، وتارة يذهب إلى نفي ذلك وإنكاره. ظل على ذلك إلى أن تقدم سنه ونضج علمه ، ورأى بعين البصيرة أن ما ظهر له من الحقائق الكونية بالنسبة إلى ما بقي تحت طي الخفاء ما هو إلا كقطرة من بحر ، فهناك استبان له عجزه وتجلى له قصور المدارك الإنسانية وأنها مهما اتسعت فإن لها حدا لا تتعداه ، وعلم أن وراء الأكمة ما وراءها ، وتحقق معنى قوله تعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) ودعاه ذلك أن يقول :
ماذا تريدون لا مال تيسّر لي |
|
فيستماح ولا علم فيقتبس |
أتسألون جهولا أن يفيدكم |
|
وتحلبون سفيّا ضرعها يبس |
وعند ذلك تاب إلى طريق الرشد وعاد إلى منهاج الحق ولازم الذكر والعبادة مع التقشف والزهد في الدنيا والتباعد عن أهلها ، إلى أن أتاه اليوم الموعود والأجل المحتوم.
ونحن نذكر لك من نظمه مما ذكره في «لزوم ما لا يلزم» ما تستدل به على صحة إيمانه ودينه ويجعلك مطمئن القلب على حسن عقيدته ويقينه ، كقوله :
أرائيك فليغفر لي الله زلتي |
|
بذاك ودين العالمين رئاء |
إذا قومنا لم يعبدوا الله وحده |
|
بنصح فإنّا منهم برآء |
وقوله :
للمليك المذكرات عبيد |
|
وكذاك المؤنثات إماء |
فالهلال المنيف والبدر والفر |
|
قد والصبح والثرى والماء |
والثريا والشمس والنار والنثرة والأرض والضحى والسماء
هذه كلها لربك ما عابك في قول ذلك الحكماء