وثمن الكلام : أن يوفى من أبلغ الإصغاء ، وأحسن الاستماع حقه ، وأن يتلقى من القبول له ، والاهتزاز بأكمل ما استحقه ، ولا يقع ذلك ما لم يكن السامع عالما بجهات حسن الكلام ، ومعتقدا بأن المتكلم تعمدها في تركيبه للكلام عن علم منه ؛ فإن السامع إذا جهلها لم يميز بينه وبين ما دونه ، وربما أنكره ، وكذلك إذا أساء بالمتكلم اعتقاده ، ربما نسبه في تركيبه ذاك إلى الخطأ ، وأنزل كلامه منزلة ما يليق به من الدرجة النازلة ، ومما يشهد لك بهذا ما يروى عن علي ، رضياللهعنه ، أنه كان يشيع جنازة فقال له قائل : من المتوفّي؟ بلفظ اسم الفاعل ، سائلا عن المتوفّى فلم يقل : فلان ، بل قال : الله ؛ ردا لكلامه عليه ، مخطئا إياه ، منبها له بذلك على أنه كان يجب أن يقول : من المتوفّى؟ بلفظ اسم المفعول ، ويقال : إن هذا الواقع كان أحد الأسباب التي دعته إلى استخراج علم النحو ، فأمر أبا الأسود الدؤلي بذلك ، فهو أول أئمة علم النحو ، رضوان الله عليهم أجمعين ، وما فعل ذلك ، كرم الله وجهه ، إلّا لأنه عرف من السائل أنه ما أورد لفظ المتوفّى على الوجه الذي يكسوه جزالة في المعنى ، وفخامة في الإيراد ، وهو وجه القراءة المنسوبة إليه : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً)(١) بلفظ بناء الفعل للفاعل ، من إرادته معنى والذين يستوفون مدد أعمارهم ، وإذا عرفت هذا ، فنقول في التركيب الذي نحن فيه من مثل : يكتب القرآن لي زيد ، برفع زيد مع بناء الفعل للمفعول جهات للحسن ، ومزايا نتلوها عليك ، ليكون لك ذريعة إلى درك ما سواها ، إذا شحذنا بها بصيرتك.
ومنها : أن الكلام متى نسج على هذا المنوال ، ناب مناب الجمل الثلاث؟ إحداها : يكتب القرآن لي ، والثانية : الجملة المدلول عليها بزيد ، وهي من يكتبه ، والثالثة : زيد مع الرافع المقدر ، وهي يكتبه زيد ، بخلافه إذا قيل : يكتب القرآن لي زيد ، بلفظ المبني للفاعل ، ولا شبهة أن الكلام متى كان أجمع للفوائد كان أبلغ.
ومنها : أن الكلام متى سيق هذا المساق ؛ كان كل واحد من لفظي : القرآن وزيد
__________________
(١) سورة البقرة الآية ٢٣٤.