ولأمر ما تجد القرآن متفاوت القدر ارتفاعا وانحطاطا بين العلماء في نوعنا هذا وبين الجهلة. والجهات المحسنة لاستعمال الخبر في موضع الطلب تكثر ، تارة تكون قصد التفاؤل بالوقوع ، كما إذا قيل لك في مقام الدعاء : أعاذك الله من الشبهة ، وعصمك من الحيرة ، ووفقك للتقوى ، ليتفاءل بلفظ المضي على عدها من الأمور الحاصلة ، التي حقها الإخبار عنها بأفعال ماضية ، وأنه نوع مستحسن الاعتبار ، وقل لي إذا حسن اعتبار ما هو أبعد ، كإباء الكتاب في حق المخدّرات لفظ (حر استها) (١) ، وما هو أبعد وأبعد ، كإباء أهل الظرف إهداء السفرجل ، فما ظنك بالقريب؟ وهل خلع هارون على كاتبه إذ سأله عن شيء فقال : لا وأيد الله أمير المؤمنين ، إلا لأنه لم يسمع ما عليه الأغبياء فيما بينهم من : لا أيدك الله ، بترك الواو ، أو غير هارون حين خرج إلى ناحية لمطالعة عماراتها ، وقد تراءت له في طريقه أشجر من بعيد ، فسأل عنها كاتبا يصحبه ، فقال الكاتب : شجرة الوفاق ، تفاديا عن لفظ الخلاف ، فكساه.
أفترى ذلك لغير ما نحن فيه ، أو هل حين غضب الداعي على شاعره أبي مقاتل الضرير حين افتتح :
موعد أحبابك للفرقة غد
أغضبه شيء غير معنى التفاؤل ، حتى قال له : موعد أحبابك يا أعمى ، ولك المثل السوء ؛ وأمر بإخراجه. وهل تسمية العرب الفلاة : مفازة ، والعطشان : ناهلا ، واللديغ : سليما ، وما شاكل ذلك ، إلّا من باب التفاؤل؟ فالمفازة هي المنجاة ، والناهل هو الريان ، والسليم هو ذو السلامة.
وتارة لإظهار الحرص في وقوعه ، فالطالب ، متى تبالغ حرصه فيما يطلب ، ربما انتقشت في الخيال صورته لكثرة ما يناجي به نفسه ، فيخيل إليه غير الحاصل حاصلا ،
__________________
(١) الحر : بتخفيف الراء ، الفرج ، وأصله حرح ـ بكسر الحاء وسكون الراء ، ومنهم من يشدد الراء ، وليس بجيد ، وفي صحيح البخاري ك الأشربة ، واللباس : ليكونن من أمتى أقوام يستحلون الحر ... الحديث.
والاست : العجز ، وقد يراد بها حلقة الدبر.