حتى إذا حكم الحس بخلافه ، غلّطه تارة ، واستخرج له محملا أخرى. وعليه قول شيخ المعرة (١) :
ما سرت إلّا وطيف منك يصحبني ... |
|
سرّى أمامي وتأويبا على أثري |
يقول : لكثرة ما ناجيت نفسي بك انتقشت في خيالي ، فأعدك بين يدي مغلطا للبصر بعلة الظلام ، إذا لم يدركك ليلا أمامي ، وأعدك خلفي إذا لم يتيسر لي تغليطه حين لا يدركك بين يدي نهارا ، وتارة لقصد الكناية ، كقول العبد للمولى ، إذا حول عنه الوجه : ينظر المولى إلى ساعة.
ووجه حسنه : إما نفس الكناية ، إن شئت ، وإما الاحتراز عن صورة الأمر ، وإما هما. وتارة لحمل المخاطب على المذكور أبلغ حمل بألطف وجه ، كما إذا سمعت من لا تحب أن ينسب إلى الكذب يقول لك ، تأتيني غدا ، أولا تأتيني ؛ وتارة مناسبات أخر فتأملها ، ففيها كثرة.
وما من آية من آي القرآن واردة على هذا الأسلوب إلا مدارها على شيء من هذه النكت ، قال تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ)(٢) في موضع : لا تعبدوا. (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ)(٣) في موضع : لا تسفكوا.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ* تُؤْمِنُونَ
__________________
(١) شيخ المعرة : أبو العلاء المعري : أحمد بن عبد الله بن سليمان .... التنوخي المعري. كنيته أبو العلاء ، ولد بالمعرة سنة ٣٦٣ ه ، قرأ اللغة والنحو على أبيه بالمعرة ، وكان عالما باللغة والنحو والأدب ، وكانت وفاته سنة ٤٤٩ ه.
والبيت من البسيط له الإيضاح (١ / ١٨٣) ، والمصباح (٩٣) ، ديوان سقط الزند (١ / ١١٨) وشرح عقود الجمان ص ٨٢٩.
السرى : السير ليلا ، والتأويب : ضد السرى ، وهو قطع النهار سيرا.
(٢) سورة البقرة ، الآية ٨٣ ، ٨٤.
(٢) سورة البقرة ، الآية ٨٣ ، ٨٤.