وقرأ يوسف هذه الحكمة ببلاده فساد فيها وعانى شيئا من علوم الرياضة وأجادها وكانت حاضرة على ذهنه عند المحاضرة ، ولما ألزم اليهود والنصارى في تلك البلاد بالإسلام أو الجلاء كتم دينه وتحيل عند إمكانه من الحركة في الإنتقال إلى الإقليم المصري ، وتم له ذلك فارتحل بماله ووصل واجتمع بموسى بن ميمون القرطبي رئيس اليهود بمصر وقرأ عليه شيئا وأقام عنده مدة قريبة ، وسأله إصلاح هيئة ابن أفلح الأندلسي ، فإنها صحبته من سبتة ، فاجتمع هو وموسى على إصلاحها وتحريرها. وخرج من مصر إلى الشام ونزل حلب وأقام بها مدة وتزوج إلى رجل من يهود حلب يعرف بابن العلاء الكاثب مارذكا ، وسافر عن حلب تاجرا إلى العراق ، ودخل الهند وعاد سالما وأثري حاله ، ثم ترك السفر وأخذ في التجارة واشترى ملكا قريبا وقصده الناس للاستفادة منه ، فأقرأ جماعة من المقيمين والواردين وخدم في أطباء الخاص في الدولة الظاهرية بحلب. وكان ذكيا حاد الخاطر ، وكانت بيننا مودة طالت مدتها. وقد شكا إليّ يوما أمره وقال : لي ابنتان وأخشى عليهما من مشاركة السلطان لهما في الميراث وأود أن يكون لي ولد ذكر ، فذكرت له شيئا منقولا من أقوال بعض الحكماء في التحيل على طلب الولد الذكر عند النكاح ، فقال : أريد عمل ذلك ، وكان قد تزوج امرأة أخرى غير الأولى بحكم موت الأولى ، وبعد مدة أخرى إنها قد علقت وقال : لقد فعلت ما قلت لي ، ثم إنها كما شاء الله ولدت له ولدا ذكرا فجاءني ، وقد طار سرورا. بعد مدة بلغني أن أم الولد أدخلته الحمّام وأكثرت عليه الماء الحار فهلك فأدركه لذلك أمر مزعج. ولما اجتمعت به معزّيا له هوّنت عليه ما جرى وقلت له : اصبر وراجع العمل ، ففعل وعلقت فجاءته بولد وسماه عبد الباقي وعاش ، ثم إنه ترك ما قلته له فعلقت وجاءته بابنة ، فلام نفسه على ترك ما ذكرته له ، وعاود بعد مدة ففعل ذلك فجاءته بذكر فقال : لا أنكر بهذا صحة ما يقال بالتجربة ، فقد استقر هذا عندي حتى لا أنكره.
وقلت له يوما : إن كان للنفس بقاء تعقل به حال الموجودات من خارج بعد الموت ، فعاهدني على أن تأتيني إن مت قبلي وآتيك إن مت قبلك ، فقال : نعم ، ووصيته أن لا يغفل ، ومات وأقام سنتين ، ثم رأيته في النوم وهو قاعد في عرصة مسجد من خارجه في حظيرة له وعليه ثياب جدد بيض من النصيفي فقلت له : يا حكيم ألست قررت معك أن تأتيني لتخبرني بما لقيت؟ فضحك وأدار وجهه ، فأمسكته بيدي وقلت له : لابد أن تقول لي ماذا لقيت وكيف الحال بعد الموت ، فقال لي : الكلّي لحق بالكل وبقي الجزئي