والمها اشتبه عليه الحال فلم يدر هل هي امرأة أم ظبية فقال : آانت أم أم سالم. وأطال الشيخ موفق الدين القول في ذلك وبسط بأحسن عبارة بحيث يفهمه البليد البعيد الذهن ، وذلك الفقيه منصت مقبل على كلامه بكليته ، حتى يتوهم من يراه على تلك الصورة أنه قد تعقل جميع ما قاله الشيخ من شرحه ، فلما فرغ الشيخ من قوله قال له الفقيه : يا مولانا أيش في هذه المرأة الحسناء يشبه الظبية؟ فقال له الشيخ قول منبسط : تشبهها في ذنبها وقرونها ، فضحك الحاضرون وخجل الفقيه ، وما عدت رأيته حضر مجلسه.
وكنا يوما نقرا عليه بالمدرسة الرواحية فجاءه رجل من الأجناد وبيده مسطور بدين ، وكان الشيخ له عادة بالشهادة في المكاتيب الشرعية ، فقال : يا مولانا أشهد على ما في هذا المسطور ، فأخذه الشيخ من يده وقرأ أوله : أقرت فاطمة ، فقال له الشيخ : أنت فاطمة؟ فقال الجندي : يا مولانا الساعة تحضر ، وخرج إلى باب المدرسة فأحضرها وهو يتبسم من كلام الشيخ.
وكنا يوما نقرأ عليه في داره فعطش بعض الحاضرين وطلب من الغلام ماء ، فأحضره ، فلما شرب قال : ما هذا إلا ماء بارد ، فقال له الشيخ : لو كان خبزا حارا كان أحب إليك.
وكنا يوما عنده بالمدرسة الرواحية فجاء المؤذن وأذّن قبل العصر بساعة جيدة ، فقال الحاضرون : أيش هذا يا شيخ وأين وقت العصر؟ فقال الشيخ موفق الدين : دعوه عسى أن يكون له شغل فهو مستعجل.
وكان يوما عنده القاضي بهاء الدين المعروف بابن شداد قاضي حلب ، فجري ذكر زرقاء اليمامة وأنها كانت ترى الشيء من المسافة البعيدة حتى قيل : تراه من مسيرة ثلاثة أيام ، فجعل الحاضرون يقولون ما علموه من ذلك ، فقال الشيخ موفق الدين : أنا أرى الشيء من مسيرة شهرين ، فتعجب الكل من قوله وما أمكنهم أن يقولوا له شيئا ، فقال له القاضي : كيف هذا يا موفق الدين؟ فقال : لأني أرى الهلال ، فقلت له : كان قلت مسافة كذا وكذا سنة ، فقال : لو قلت هذا عرف الجماعة الحاضرون (غرضي ، وكان قصدي الإبهام عليهم) (١).
__________________
(١) ما بين قوسين إضافة من وفيات الأعيان ليست في الأصل.