وفي التفاته الثاني على أن المتحزن تحزّن تحزّن صدق ، ولذلك لا يتفاوت الحال ، خاطبتك أم لم أخاطبك.
وفي التفاته الثالث على أن جميع ذلك إنما كان لما خصه ولم يتعداه إلى من سواه ، أو نبه في التفاته الأول على أن ذلك النبأ أطار قلبه ، وأبار لبه ، وتركه حائرا ، فما فطن معه لمقتضى الحال من الحكاية ، فجرى على لسانه ما كان ألفه من الخطاب الدائر في مجاري أمور الكبار أمرا ونهيا
والإنسان إذا دهمه ما تحار له العقول ، وتطير له الألباب ، وتدهش معه الفطن ، لا يكاد يسلم كلامه عن أمثال ذلك.
وفي التفاته الثاني على أنه بعد الصدمة الأولى حين أفاق شيئا مدركا بعض الإدراك ، ما وجد النفس معه ، فبنى الكلام على الغيبة قائلا : (وبات وباتت له ...)
وفي التفاته الثالث على ما سبق ، أو نبه في التفاته الأول ، على أن نفسه حين لم تتثبت ولم تتصبر ، غاظه ذلك ، فأقامها مقام المستحق للعتاب ، قائلا له ، على سبيل التوبيخ والتعيير : (تطاول ليلك ....).
وفي الثاني على أن الحامل على الخطاب والعتاب ، لما كان هو الغيظ والغضب ، فحين سكت عنه الغضب بالعتاب الأول ، فإن سورة الغضب بالعتاب تنكسر ، ولّى عنها الوجه وهو يدمدم قائلا : (وبات وباتت له ...).
وفي التفاته الثالث ، على ما تقدم ؛ وإنما ذكرت لك ما ذكرت ، لتقف على أن الفحول البزّل لا يعترفون بالبلاغة لامرئ ، ولا يقيمون لكلامه وزنا ، ما لم يعثروا من مطاوي افتناناته على لطائف اعتبارات ، والتفاضل بين الكلامين قلما يقع إلا بأشباهها.
واعلم أن لطائف الاعتبارات المرفوعة لك في هذا الفن من تلك المطامح النازحة من مقامك ، لا تثبتها حق إثباتها ما لم تمتر بصيرتك في الاستشراف لما هنالك إطباء (١)
__________________
(١) إطباء المجهود : بذله.