حين قال في محل معفو : (ما عفته الرياح) كان موضع سؤال ، وهو فما إذن عفاه إذن؟ وكذلك قوله (١) :
وقد غرضت من الدنيا فهل زمني ... |
|
معط حياتي لغرّ بعد ما غرضا. |
جرّبت دهري وأهليه فما تركت ... |
|
لي التجارب في ودّ امرىء غرضا |
لم يصل" جربت" بالعطف على" غرضت" بناء على سؤال ينساق إليه معنى البيت الأول ، وهو : لم تقول هذا ويحك؟ وما الذي اقتضاك أن تطوي عن الحياة ، إلى هذه الغاية ، كشحك؟ وكذلك قوله عز قائلا : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ)(٢) جاء مفصولا عما قبله بطريق الاستئناف ، كأنه قيل : ما للمتقين الجامعين بين الإيمان بالغيب ، في ضمن إقامة الصلاة ، والإنفاق مما رزقهم الله تعالى ، وبين الإيمان بالكتب المنزلة ، في ضمن الإيقان بالآخرة ، اختصوا بهدى لا يكتنه كنهه ، ولا يقادر قدره ، مقولا في حقهم (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ ،) والذين بتنكير (هدى) ، فأجيب : بأن أولئك الموصوفين غير مستبعد ولا مستبدع أن يفوزوا دون من عداهم بالهدى عاجلا ، وبالفلاح آجلا.
ولك أن تقدر تمام الكلام هو : المتقين ، وتقدر السؤال ، ويستأنف الذين يؤمنون بالغيب إلى ساقة الكلام ، وأنه أدخل في البلاغة لكون الاستئناف على هذا الوجه منطويا على بيان الموجب ، لاختصاصهم بما اختصوا به ، على نحو ما تقول : أحسنت إلى زيد ، صديقك القديم ، أهل منك لما فعلت ، ولك أن تخرج الآية عما نحن بصدده ، بأن يجعل الموصول الأول من توابع" المتقين" إما مجرورا بالوصف ، أو منصوبا
__________________
(١) أوردهما الطيبى في التبيان (١ / ٢١٨) بتحقيقى وعزاهما لأبي العلاء ، والطيبى في شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيقى (١ / ٨٦) وهما لأبي العلاء المعرى في سقط الزند (٢٠٨) ، ومحمد بن على الجرجانى في الإشارات (١٢٥).
وغرضت : ضجرت.
(٢) سورة البقرة الآية ٥.