كأنّ انتضاء البدر من تحت غيمه ... |
|
نجاء من البأساء بعد وقوع |
فإنه لما رأى العادة جارية أن يشبه المتخلص من البأساء بالبدر الذي ينحسر عنه الغمام ، قلب التشبيه ليرى أن صورة النجاء من البأساء ، لكونها مطلوبة فوق كل مطلوب ، أعرف عند الإنسان من صورة انتضاء البدر من تحت غيمه ، فشبه هذه بتلك ، وكقوله (١)
وأرض كأخلاق الكرام قطعتها ... |
|
وقد كحل اللّيل السّماك فأبصرا |
فإنه لما رأى استمرار وصف الأخلاق بالضيق وبالسعة ، تعمد تشبيه الأرض الواسعة بخلق الكريم ، ادعاء أنه في تأدية معنى السعة أكمل من الأرض المتباعدة الأطراف.
ومن الأمثلة ما يحكيه جل وعلا عن مستحلّ الربا من قولهم : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا)(٢) في مقام : إنما الربا مثل البيع ؛ لأن الكلام في الربا لا في البيع ؛ ذهابا منهم إلى جعل الربا في باب الحل أقوى حالا وأعرف من البيع ، ومن الأمثلة ما قال تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ)(٣) لمزيد التوبيخ فيه دون أن يقول : أفمن لا يخلق كمن يخلق ، مع اقتضاء المقام بظاهره إياه ؛ لكونه إلزاما للذين عبدوا الأوثان وسموها آلهة ، تشبيها بالله تعالى ، فقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق.
وعندي أن الذي تقتضيه البلاغة القرآنية هو أن يكون المراد (بمن لا يخلق) : الحي العالم القادر من الخلق لا الأصنام ، وأن يكون الإنكار موجها إلى توهم تشبيه الحي
__________________
(١) أورده عبد القاهر الجرجاني في أسرار البلاغة ص ١٨٧ وعزاه لابن بابك.
السّماك : نجم معروف ، وهما سماكان : رامح وأعزل. والرامح : لانوء له وهو إلى جهة الشمال ، والأعزل : من كواكب الأنواء وهو إلى جهة الجنوب.
(٢) سورة البقرة ٢٧٥.
(٣) سورة النحل الآية : ١٧.