واتفق حضور أخي معي ، وكنت بصدد أشغال يحتاج إليها المسافر ، فلم أسمح بمفارقته والاشتغال بها ، فتحدثت مع أخي حديثا باللسان الفارسي ، فأرشدته إلى ما يعمله فيها ، ثم عدت إلى مذاكرة أبي العلاء ، فتجارينا الحديث إلى أن ذكرت ما وصف به من سرعة الحفظ وسألته أن يريني من ذلك ما أحكيه عنه ، فقال : خذ كتابا من هذه الخزانة قريبة منك واذكر أوله ، فإني أورده عليك حفظا ، فقلت : كتابك ليس بغريب إن حفظته ، قال : قد دار بينك وبين أخيك كلام بالفارسية إن شئت أعدته ، قلت : أعده ، فأعاده ما أخل والله بحرف منه ، ولم يكن يعرف اللغة الفارسية ا ه.
وأخبرني عنه بمثل هذه الحكاية والدي رحمهالله تعالى فيما يأثره عن الشيوخ الحلبيين قال : كان لأبي العلاء جار أعجمي بمعرة النعمان ، فغاب في بعض حوائجه عن معرة النعمان ، فحضر رجل غريب أعجمي قد قدم من بلاد العجم يطلبه فوجده غائبا ، وهو مجتاز لم يمكنه المقام ، وذلك القادم لا يعرف اللسان العربي ، فأشار إليه أبو العلاء أن يذكر حاجته إليه ، فجعل يتكلم بالفارسية وأبو العلاء يصغي إليه ، إلى أن فرغ من كلامه وهو لا يفهم ما يقول ، ومضى الرجل وقدم جار أبي العلاء العجمي الغائب وحضر عند أبي العلاء ، فذكر له حال الرجل وطلبه له ، وجعل يعيد عليه بالفارسية ما قال والرجل يبكي ويستغيث ويلطم على رأسه ، إلى أن فرغ أبو العلاء ، وسئل عن حاله ، فأخبرهم أنه أخبر بموت أبيه وإخوته وجماعة من أهله ، أو كما قال.
قال لي والدي : وبلغني من ذكاء أبي العلاء وحسن حفظه أن جارا له سمّانا كان بينه وبين رجل من أهل المعرة معاملة ، فجاءه ذلك الرجل فدفع إليه السمان رقاعا كتبها إليه يستدعي فيها حوائج له ، وكان أبو العلاء في غرفة مشرفة عليهما يسمع محاسبته له ، وأعاد الرجل الرقاع إلى السمان ، ومضى على ذلك أيام ، فسمع أبو العلاء ذلك السمان وهو يتأوه ويتململ ، فسأله على حاله فقال : كنت حاسبت فلانا برقاع كانت له عندي وقد عدمتها ولا يحضرني حسابه ، فقال : لا عليك ، تعال إلي فأنا أحفظ حسابكما ، وجعل يملي عليه معاملته جميعها وهو يكتبها ، إلى أن فرغ وقام ، فلم يمض إلا أيام يسيرة فوجد السمان الرقاع وقد جذبها الفأر إلى زاوية في الحانوت ، فقابل بها ما أملاه عليه أبو العلاء فلم يخط في حرف واحد.