وأخبرني قاضي معرة النعمان شهاب الدين أبو المعالي أحمد بن مدرك بن سليمان فيما تأثره عن المعريين أن الشيخ أبا العلاء لما دخل بغداد لم يعرض عليه شيء من الكتب إلا وحفظها ، وأخبرهم أنه يحفظ كل شيء سمعه ، وطلبوا كتابا لا يعرفه ليمتحنوه به ، فأحضروا دستور الخراج الذي في الديوان وجعلوا يوردون ذلك عليه مياومة وهو يسمع ، إلى أن فرغوا من ذلك ، فابتدأ أبو العلاء وسرد عليهم كل ما أوردوه عليه.
وقفت على كتاب سيّره إلي بعض الرؤساء بحلب وضعه الشريف أبو علي المظفر بن الفضل بن يحيى العلوي الإسحاقي الحسيني نزيل بغداد ، وهو من ولد الشريف أبي إبراهيم العلوي الحراني ، وأصله من حلب ، وكان أبوه حاجب الباب ببغداد ، ورد هذا الشريف علينا حلب زائرا أهله بها ، فذكر فيه قال : حدثني والدي رضياللهعنه وأرضاه يرفعه إلى ابن منقذ قال : كان بأنطاكية خزانة كتب ، وكان الخازن بها رجلا علويا ، فجلست يوما إليه فقال : قد خبأت لك غريبة ظريفة لم يسمع بمثلها في تاريخ ولا كتاب منسوخ ، قلت : وما هي؟ قال : صبي دون البلوغ ضرير يتردد إليّ وقد حفّظته في أيام قلائل عدة كتب ، وذلك لأنني قرأت عليه الكراسة والكراستين مرة واحدة فلا يستعيد إلا ما يشك فيه ، ثم يتلو عليّ ما قد سمعه كأنه كان محفوظه ، قلت : فلعله يكون يحفظ ذلك ، قال : سبحان الله ، كل كتاب في الدنيا محفوظ له؟ وإن كان كذلك فهو أعظم. ثم حضر المشار إليه وهو صبي دميم الخلقة مجدور الوجه على عينيه بياض من أثر الجدري كأنه ينظر بإحدى عينيه قليلا ، وهو يتوقد ذكاء ، يقوده رجل طوال من الرجال أحسبه يقرب من نسبه ، فقال له الخازن ، يا ولدي ، هذا رجل شريف القدر ، وقد وصفتك عنده ، وهو يحب أن تحفظ اليوم ما يختاره لك ، فقال : سمعا له وطاعة فليختر ما يريد ، قال ابن منقذ : فاخترت شيئا وقرأته على الصبي وهو يموج ويستزيد ، فإذا مر به شيء يحتاج إلى تقريره في خاطره يقول : أعد هذا ، فأورده عليه مرة واحدة ، حتى انتهيت إلى ما يزيد على كراسة ، ثم قلت له : يقنع هذا من قبل نفسي ، قال : أجل حرسك الله ، قلت : كذا وكذا وتلا عليّ ما أمليته عليه وأنا أعارضه بالكتاب حرفا حرفا حتى انتهى إلى حيث وقفت عليه ، فكاد عقلي يذهب لما رأيت منه ، وعلمت أن ليس في العالم من يقدر على ذلك إلا أن يشاء الله ، وسألت عنه فقيل لي : هذا أبو العلاء التنوخي من بيت العلم والقضاء والثروة والغناء.