يشرحها ويستشهد عليها ، حتى انتهت الكلمات. ثم أطرق ساعة مفكرا ورفع رأسه وقال : كأني بكم وقد وضعتم هذه الكلمات لتمتحنوا بها معرفتي وثقتي في روايتي ، وو الله لئن لم تكشفوا لي الحال وتدعوا المحال وإلا فهذا فراق ما بيني وبينكم. فقالوا له : والله الأمر كما قلت ، وما عدوت ما قصدناه. فقال : سبحان الله : والله ما أقول إلا ما قالته العرب ، وما أظن أنها نطقت (١). والرايد لا يكذب أهله. وأما العبد إذا كذب سيده فبعد ولا سعد والجاهل من لا يعرف نفسه ، والذاهل من لا يذكر أمسه. ولنفسي الجانية أقول : أعييتني بأشر وكيف بدردر ، أعيت رياضة الهرم وعصر الماء من الجمر المضطرم ، إن كذبت فعن الخير أعذبت ، ما اعتزلت حتى جددت وهزلت ، فوجدتني لا أصلح لجدّ ولا هزل ، فعندما قنعت بالأزل.
وما حمامة ذات طوق يضرب بها المثل في الشوق ، كانت في وكر مصون بين الشجر والغصون ، تألف من أبناء جنسها ريدا فيتراسلان تغريدا ، أسكنها نعمان الأراك ، تأمن به غوايل الأشراك ، تمرّ في بكرتها بالبيت الحرام ، لا تفرق لطريق صايد ولا رام ، فغرّها القدر فخرجت من الأرض المحرّمة ، فأصبحت وهي جدّ مغرمة ، صادها وليد في الحلّ ما حفظ لها من إلّ ، فأودعها سجنا للطير ، ومنعها من كل مير ، فإذا رأت من خصاص القفص بواكر الحمام ظلت تمارس من جرع الحمام ، تسأل بطرفها أخاها : ما فعل بعدها فرخاها ، فيقول : أصبحا ضائعين قد سترهما الورق عن كل عين.
فريخان ينضاعان في الفجر كلما |
|
أحسّا دويّ الريح أو صوت ناعب |
بأشوق إلى العيشة النضرة مني إلى تلك الحضرة ، لكن صنع الزمان ما هو صانع ، واعترض دون الخير مانع ، حال الغصص دون القصص والجريض دون القريض. المورد نمير أزرق ولكن المدنف بالشراب يشرق.
__________________
(١) نبهت الطبعة المصرية إلى أن ههنا نقصا.