مما يبلغ أن أتلف معه نفسك ، وإنما كان مقصودي أن أدعك تعيش خائفا فقيرا ممججا (١) في البلاد ، فلا تظن أنك هربت مني بمكيدة صحت لك عليّ ، فاذهب إلي غير دعة الله. قال : وتركني القاصد وعاد ، فبقيت مبهوتا إلى أن وصلت إلى حلب. فحدثني الصاحب جمال الدين الأكرم أدام الله علّوه : لما ورد إلى حلب نزل في داري فأقام عندي مدة وذلك في سنة ٦٠٤ ، وعرف الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين خبره فأكرمه وأجرى عليه. في كل يوم دينارا صوريا وثلاثة دنانير أخرى أجرة دار ، فكان يصل إليه في كل ثلاثة أشهر ثلاثون دينارا غير بر وألطاف ما كان يخليه منها ، وأقام عنده على قدم العطلة إلى سنة ٦٠٦ كما ذكرنا ، ومات فدفن بظاهر حلب بمقام بقرب قبر أبي بكر الهروي. وله تصانيف كثيرة يقصد بها قصد التأدب وفي معرض وقائع تجري ويعرضها على الأكابر لم تكن مفيدة إفادة علمية ، وإنما كانت شبيهة بتصانيف الثعالبي وأضرابه (سردها في المعجم جميعها وهي تزيد على عشرين مؤلفا) ثم قال :
وكان له نوادر حسنة حادة ، منها ما حدثني به الصاحب القاضي الأكرم قال : ركبنا وخرجنا يوما نسير بظاهر حلب ، فكان خروجنا من أحد أبوابها ، ودرنا سور البلد جميعه ثم دخلنا من ذلك الباب فقال : اليوم تسييرنا تدليك ، قلت : كيف؟ قال : من برّا برّا.
وكان السديد بن المنذر وهو رجل فقيه اتصل بالسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بعض الاتصال ، فجعل لنفسه بذلك سوقا واستجلب بما يمتّ به من ذلك وإن كان باطلا رزقا ، وكان أعور رديئا قليل الدين بغيضا ، ولما أحدث الملك الظاهر غازي قناة الماء بحلب وأجراها في شوارعها ودور الناس فوض إلى ابن المنذر النظر في مصالحها ورزق على ذلك رزقا حسنا نحو ثلاثمائة درهم في الشهر ، فسأل عنه الأمير فارس الدين ميمون القصري والأسعد بن مماتي حاضر ، فقال له مسرعا : هو اليوم مستخدم على قناة ، فأعجب بحسن هذه النادرة الحاضرين.
وقيل للأسعد يوما : أي شيء يشبه ابن المنذر؟ فقال : يشبه الزب ، فاستبردوا ذلك وظنوا أنه إنما ذهب إلى عورة فقط ، فقال : مالكم لا تسألونني كيف يشبهه؟ فقالوا :
__________________
(١) لعل الصواب : مهججا.