وسمع بمصر والإسكندرية والحرمين وحلب وحماة وحمص وبعلبك والقدس ونابلس وغيرها. ونسخ بخطه المليح المتقن كثيرا لنفسه ولغيره ، وقرأ الكثير ، وبرع في اللغة والتصريف ، وانتهت إليه الإمامة في علم الحديث ، مع الصدق والإتقان وحسن الأخلاق وكثرة السكون وقلة الكلام وكثرة التواضع والحلم والصبر والإقتصاد في المأكل والملبس ، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية وغيرها ، وصنف كتاب «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» في مائتين وخمسين جزءا ، وهو كتاب حافل عديم النظير ، وكتاب «الإطراف» في ستة وثمانين جزءا. وأوضح في هذين الكتابين مشكلات لم يسبق إليها ، وقد ملكت الكتابين بخطه والحمد لله وهو شيخي الذي انتفعت به كثيرا في هذا العلم. وكان إماما في السنة ماشيا على طريقة سلف الأمة ، ممرا للآيات والأحاديث كما جاءت من غير تشبيه ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل. وكان صحيح الذهن حسن الفهم سريع الإدراك يرد في الإسناد والمتن ردا ينبهر له فضلاء الحاضرين ، وربما يكون في أثناء ذلك يطالع وينقل الطاق. وقد ترافق هو وشيخنا العلامة أبو العباس [ابن تيميّة] كثيرا في الطلب وسماع الحديث وانتفع كل واحد منهما بالآخر.
وذكره الحافظ فتح الدين أبو الفتح بن سيد الناس اليعمري فقال : ووجدت بدمشق من أهل هذا العلم الإمام المقدم ، والحافظ الذي فاق من تأخر من أقرانه وتقدم ، أبا الحجاج يوسف ابن الزكي عبد الرحمن المزي بحر هذا العلم الزاخر ، وحبره الذي يقول من رآه : كم ترك الأول للآخر ، أحفظ الناس للتراجم ، وأعلمهم بالرواة من أعارب وأعاجم ، لا يخص معرفته مصرا دون مصر ، ولا ينفرد علمه بأهل عصر دون عصر ، معتمدا آثار السلف الصالح ، مجتهدا فيما نيط به في حفظ السنة من النصايح ، معرضا عن الدنيا وأسبابها ، مقبلا على طريقته التي أربى بها على أربابها ، لا يبالي ما ناله من الأزل ، ولا يخلط جده بشيء من الهزل. وضع كتابه «تهذيب الكمال في أسماء الرجال» وضعا استخرج به العلم من معادنه ، واستنبطه من مكامنه ، وأثبته كما ينبغي في أماكنه ، فاستولى به على أمد الإحسان ، واحتوى به من السبق ما لم يدركه في عصره إنسان ، ولم يقع له أبدع من هذا التصنيف ، ولا أبرع من هذا التأليف ، وإن كان بما يصنعه بصيرا ، وبالسبق في كل ما يأتيه جديرا ، وهو أيضا في حفظ اللغة إمام ، وله بأوزان القريض معرفة وإلمام ، فكنت أحرص على فوائده لأحرز منها ما أحرز ، وأستفيد من حديثه الذي إن طال لم يمل وإن أوجز وددت أنه لم يوجز.