ثمّ حكى سبحانه جواب قوم نوح عمّا قاله لهم ، فقال : (قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا) خاصمتنا (فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا) فأطلته ، أو أتيت بأنواعه (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب ، فإنّا لا نؤمن بك (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في الدعوى والوعيد ، فإنّ مناظرتك لا تؤثّر فينا.
(قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ) أي : ليس الإتيان بالعذاب إليّ ، بل إنّما هو إلى من كفرتم به وعصيتموه (إِنْ شاءَ) إن اقتضت حكمته عاجلا وآجلا (وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) بدفع العذاب ، أو الهرب منه.
(وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ) شرط ، وجزاؤه محذوف دلّ عليه ما قبله. والجملة جواب قوله : (إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) وتقدير الكلام : إن كان الله يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. ومعنى الإغواء : أنّه إذا عرف الله من الكافر الإصرار والعناد فخلّاه وشأنه ولم يلجئه سمّي ذلك إغواء وإضلالا ، كما أنّه إذا عرف منه أنّه يتوب ويرعوي فلطف به سمّي إرشادا وهداية. وقيل : «أن يغويكم» أن يهلككم ، من : غوى الفصيل غوى إذا بشم (١) من كثرة شرب اللبن فهلك. ومعناه : أنّكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة الّتي لا تنفعكم نصائح الله ومواعظه وسائر ألطافه ، كيف ينفعكم نصحي؟! وهذا جواب لما أوهموا من أنّ جداله كلام باطل.
(هُوَ رَبُّكُمْ) خالقكم والمتصرّف فيكم وفق حكمته (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فيجازيكم على أعمالكم.
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ) إن صحّ وثبت أنّي افتريته (فَعَلَيَّ إِجْرامِي) عقوبة إجرامي وافترائي (وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ) من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ ، فلا وجه لإعراضكم عنّي.
__________________
(١) في هامش النسخة الخطّية : «البشم ـ محرّكة ـ مرض يقال له التخمة. منه».