صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد وشدّ معاقده ، وأمّا إشهادهم فما هو إلّا تهاون بدينهم ، دلالة على قلّة المبالاة بهم فحسب ، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما ، وجيء به على لفظ الأمر بالشهادة ، كما يقول الرجل لمن لا يحبّه : اشهد على أنّي لا أحبّك ، تهكّما به واستهانة بحاله.
والّذي بعثه على هذا القول أنّهم إذا اجتهدوا في إهلاكه ، ورأوا أنّهم عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم ـ وهم الأقوياء الأشدّاء ـ أن يضرّوه ، لم يبق لهم شبهة أنّ آلهتهم الّتي هي جماد لا يضرّ ولا ينفع لا تتمكّن من إضراره انتقاما منه ، فلزمت الحجّة عليهم. وهذا من جملة معجزاته ، فإنّ مواجهة الواحد الجمّ الغفير من الجبابرة الفتّاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلّا لثقته بالله تعالى ، وتثبّطهم عن إضراره ليس إلّا بعصمته إيّاه ، ولذلك عقّبه بقوله : (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ) تقريرا له.
والمعنى : أنّكم وإن بذلتم غاية وسعكم لن تضرّوني ، فإنّي متوكّل على الله تعالى ، واثق بحفظه ، وهو مالكي ومالككم ، فلا يحيق بي ما أردتم ، ولا تقدرون على إهلاكي ، لأنّه يصرف كيدكم عنّي.
(ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها) أي : إلّا وهو مالك لها قادر عليها ، فهي ذليلة مقهورة له. والأخذ بالنواصي تمثيل لذلك ، فإنّ من أخذ بناصية غيره فقد قهره وأذلّه.
ولمّا ذكر توكّله على الله وثقته بحفظه وكلاءته من كيدهم ، وصفه بما يوجب التوكّل عليه من قهره وسلطانه ، فقال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : إنّه على الحقّ والعدل ، لا يضيع عنده معتصم ، ولا يفوته ظالم.
(فَإِنْ تَوَلَّوْا) فإن تتولّوا لم أعاتب على التفريط في الإبلاغ (فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ) فقد أدّيت ما عليّ من الإبلاغ وإلزام الحجّة ، فأبيتم إلّا تكذيب