ثمّ قالا ليوسف : (نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ) بتعبير ما نقصّ عليك وما يئول إليه أمره (إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) من الّذين يحسنون تأويل الرؤيا. أو من العالمين ، يقال : أحسنه إذا علمه. وإنّما قالا ذلك لأنّهما رأياه في السجن يعظ الناس ويعبّر رؤياهم.
أو من المحسنين إلى أهل السجن ، فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.
روي أنّه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه ، وإذا ضاق أوسع له ، وإذا احتاج جمع له.
قيل : إنّ الفتيين قالا له : إنّا لنحبّك من حين رأيناك. فقال : أنشدكما بالله أن لا تحبّاني ، فو الله ما أحبّني أحد قطّ إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء ، لقد أحبّتني عمّتي فدخل عليّ من حبّها بلاء ، ثمّ أحبّني أبي فقد دخل عليّ من حبّه بلاء ، ثمّ أحبّتني زوجة صاحبي فدخل علىّ بلاء ، فلا تحبّاني بارك الله فيكما.
ولمّا استعبراه ابتدأ بوصف نفسه بما هو فوق علم العلماء ، وهو الإخبار بالغيب ، ليتيقّنا صدق تعبيره ووقوع ما يعبّره عليهما ، وليدعوهما إلى التوحيد ، ويرشدهما إلى الطريق القويم ، قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه ، كما هو طريقة الأنبياء والنازلين منازلهم من العلماء في الهداية والإرشاد. فلهذا (قالَ) أولا : (لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) بتأويل الطعام ، يعني : ماهيّته وكيفيّته ، فإنّه يشبه تفسير المشكل والإعراب عن معناه (قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) أي : لا يأتيكما طعام من منزلكما إلّا أخبرتكما بصفة ذلك الطعام وكيفيّته قبل أن يأتيكما ذلك الطعام. وهذا مثل قول عيسى عليهالسلام : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) (١).
وقيل : معناه : لا يأتيكما طعام ترزقانه في منامكما إلّا نبّأتكما بتأويله وبيان عاقبته في اليقظة قبل أن يأتيكما التأويل. والأوّل أشهر وأصحّ.
__________________
(١) آل عمران : ٤٩.