وكان للفقهاء في أيامه حرمة تامة ورعاية كبيرة ، خصوصا جماعة مدرسته فإنهم كانوا يحضرون مجالس السلطان ويفطرون عنده في شهر رمضان على سماطه ، وكنا نسمع عليه الحديث ونتردد إليه في داره. وقد كانت له قبة تختص به وهي شتوية لا يجلس في الصيف إلا فيها لأن الهرم كان قد أثر فيه حتى صار كفرخ الطائر من الضعف لا يقدر على الحركة للصلوات وغيرها إلا بمشقة عظيمة ، وكانت النزلات تعتريه في دماغه فلا يفارق تلك القبة ، وفي الشتاء يكون عنده منقل كبير عليه من الفحم والنار شيء كثير ، ومع هذا كله لا يزال مزكوما وعليه الفرجية البرطاسي والثياب الكثيرة وتحته الطراحة الوثيرة فوق البسط ذوات الخمائل الثخينة بحيث إنا كنا نجده عنده الحر والكرب وهو لا يشعر به لكثرة استيلاء البرودة عليه من الضعف. وكان لا يخرج لصلاة الجمعة إلا في شدة القيظ ، وإذا قام إلى الصلاة بعد الجهد يكاد يسقط ، ولقد كنت أنظر إلى ساقيه إذا وقف للصلاة كأنهما عودان دقيقان لا لحم فيهما ، وكان عقيب صلاة الجمعة يسمع المصلون عنده الحديث عليه ، وكان يعجبه ذلك. وكان حسن المحاضرة جميل المذاكرة ، والأدب غالب عليه ، وكان كثيرا ما ينشد في مجالسه :
إن السلامة من ليلى وجارتها |
|
أن لا تمرّ على حال بناديها |
وكان يتمثل أيضا كثيرا يقول صرّدر الشاعر :
وعهودهم بالرمل قد نقضت |
|
وكذاك ما يبنى على الرمل |
فأنشده في بعض الأيام فقال له بعض الحاضرين : يا مولانا قد استعمل ابن المعلم العراقي هذا المعنى استعمالا مليحا ، فقال : ابن المعلم هو أبو الغنائم ، فقال : نعم ، فقال : صاحبنا كان فكيف قال : فأنشده :
نقضوا العهود وحقّ ما يبنى على |
|
رمل اللوى بيد الهوى أن ينقضا |
فقال : ما أقصر ، ولقد تلطف في قوله بيد الهوى ، فقال له : يا مولانا ، وقد استعمله في قصيدة أخرى ، فقال : هات فأنشده :
ولم يبن على الرمل |
|
فكيف انتقض العهد |