فاستحسنه.
ثم قال : وكان كلما نظر إلى نفسه على تلك الحالة من الضعف والعجز عن القيام والقعود والصلاة وسائر الحركات ينشد :
من يتمنّ العمر فليدّرع |
|
صبرا على فقد أحبّائه |
ومن يعمّر ير في نفسه |
|
ما يتمناه بأعدائه (١) |
ودخل عليه يوما رجل من أهل المغرب يقال له أبو الحجاج يوسف (تقدمت ترجمته في وفيات سنة ٦٢٣) وكان قريب العهد ببلاده ، ورد حلب في تلك الأيام ، وكان فاضلا في الأدب والحكمة ، فلما رآه على تلك الهيئة من الهزال والنحافة أنشده :
لو يعلم الناس ما في أن تعيش لهم |
|
بكوا لأنك من ثوب الصبا عار |
ولو أطاقوا انتقاصا من حياتهم |
|
لما فدوك بشيء غير أعمار |
فأعجبه ذلك ودمعت عيناه وشكر له. ثم قال :
وكان القاضي أبو المحاسن المذكور سلك طريق البغاددة في تربيتهم وأوضاعهم حتى إنه كان يلبس ملبوسهم ، والرؤساء يترددون إليه ، وكانوا ينزلون عن دوابهم على قدر أقدارهم ، لكل واحد منهم مكان معين لايتعداه.
ثم إنه تجهز إلى الديار المصرية لإحضار ابنة الملك الكامل ابن الملك العادل للملك العزيز صاحب حلب ، وكان قد عقد نكاحه عليها. فسار في أول سنة تسع وعشرين أوآخر سنة ثمان وعشرين وستماية وعاد وقد جاء بها في شهر رمضان من السنة. ولما وصل كان قد استقل الملك العزيز بنفسه ورفعوا عنه الحجز ونزل الأتابك طغرل من القلعة إلى داره تحت القلعة واستولى على الملك العزيز جماعة من الشبان الذين كانوا يعاشرونه ويجالسونه ، فاشتغل بهم ، ولم ير القاضي أبو المحاسن وجها يرتضيه فلازم داره إلى حين وفاته ، وهو باق على الحكم وإقطاعه جار عليه ، غاية ما في الباب أنه لم يبق له حديث في الدولة ولا كانوا يراجعونه في الأمر ، فكان يفتح بابه لإسماع الحديث كل يوم بين الصلاتين ، وظهر عليه الخرف بحيث إنه صار إذا جاءه الإنسان لا يعرفه ، وإذا قام سأل عنه ولا يعرفه. واستمر على هذا الحال مديدة ، ثم مرض أياما قلائل وتوفي يوم الأربعاء رابع عشر صفر سنة اثنتين
__________________
(١) في الأصل : ما يتمناه في أعدائه.