الناس ثلاثين سنة وهو متكتف تحت ثيابه ويسبل أكمامه فارغة خوفا من الولاة في أيامه لأنهم كانوا إسماعيليين يرون رأي المصريين ، وكانوا يفطرون قبل العيد بيوم ويجتمع أكابر حلب في يوم عيدهم يهنؤونهم ، فصعد القاضي أبو غانم للهناء في من صعد وقدم للناس سكّرا ولوزا ، وأخذ القاضي أبو غانم لوزة ووضعها في فيه ، فقال له صاحب حلب : أيها القاضي لم لا تأكل من السكر؟ فقال : لأنه يذوب ، وتبسم فضحك الوالي وأعفاه من ذلك.
حدثني كمال الدين قال : حدثني عمي حدثني أبي قال : نزل جدك القاضي أبو غانم في بعض الأيام يصلي بالجامع وخلع نعليه قرب المنبر وكانا جديدين ، فلما قضى صلاته قام للبسهما فوجد نعله العتيق مكانهما ، فقال لغلامه : ألم أنزل إلى الجامع بالمدارس الجديد ، فأين هو؟ فقال الغلام : بلى ، ولكن جاءنا الساعة رجل وطرق الباب وقال : القاضي يقول لكم أنفذوا إليه مداسه العتيق إلى الجامع فقد سرق مداسه الجديد ، فضحك وقال : هذا والله لص شفيق جزاه الله خيرا وهو في حل منه.
والقاضي أبو غانم هذا هو الذي نهض من حلب في سنة ٥١٨ وقد حصرها الفرنج ودبيس بعد قتل بلك على منبج حتى أقدم البرسقي من الموصل فاستنقذها من الحصار ، وهربوا لما سمعوا بقدومه. وكان أهل حلب لقوا شدة وأكلوا الميتة ولم يكن عندهم أمير وإنما تولوا حفظ البلد بأنفسهم وأبلوا بلاء حسنا حسنت به العاقبة.
ومنهم أبنه القاضي أبو الفضل هبة الله سمي باسم جده وكني بكنيته. وكان فقيها مرضيا ورعا زاهدا ، سمع الحديث ورواه ، وولي بحلب وأعمالها بعد موت أبيه القاضي أبي غانم وكتب له عهده من أتابك زنكي بن آقسنقر في سنة ٥٣٤ ، ثم جاء له العهد من بغداد من قاضي القضاة الزينبي وأمر المقتفي. وكان مولده في ذي القعدة سنة ٤٩٩ ، فلما قتل أتابك زنكي وولي ابنه نور الدين وولي القضاء كمال الدين محمد بن عبد الله الشهرزوري قضاء الشام ورزق البسطة والتحكم في الدولة وقاوم الوزراء بل الملوك التمس من القاضي أبي الفضل هذا أن يكتب في كتب سجلاته ذكر النيابة عنه ، فامتنع القاضي أبو الفضل ولج ابن الشهرزوري ، وساعده مجد الدين بن الداية وهو والي حلب لشيء كان في نفسه على القاضي أبي الفضل لأمور كان يخالفه فيها في أقضية يوفر فيها جانب الحق على أغراضه. وترددت المراسلات بين نور الدين وبينه في قبول النيابة وهو يأبى إلى أن قال ابن الداية : هذا تحكم منه في الدولة وفيك إذ تأمر بشيء ولا يمتثله فاعزله وولّ محيي الدين ابن كمال