ثمّ عدّد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه ، فقال : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ) جعله بحيث تتمكّنون من الانتفاع به بالركوب والاصطياد والغوص (لِتَأْكُلُوا مِنْهُ) بالاصطياد (لَحْماً طَرِيًّا) هو السمك. ووصفه بالطراوة ، لأنّه أرطب اللحوم ، يسرع إليه الفساد ، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. ولإظهار قدرته في خلقه عذبا طريّا في ماء زعاق (١).
وتمسّك به مالك والثوري على أنّ من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك.
وأجيب عنه بأنّ مبنى الأيمان على العرف ، وهو لا يفهم منه عند الإطلاق.
ألا ترى إذا قال الرجل لغلامه : اشتر بهذه الدراهم لحما ، فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار. ونظيره أنّ الله سمّى الكافر دابّة في قوله : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٢). ولا يحنث الحالف على أن لا يركب دابّة بركوب الكافر.
(وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) كاللؤلؤ والمرجان ، أي : تلبسها نساؤكم ، فأسند إليهم لأنّهنّ من جملتهم ، ولأنّهنّ يتزيّنّ بها لأجلهم.
(وَتَرَى الْفُلْكَ) السفن (مَواخِرَ فِيهِ) شواقّ في البحر ، وقواطع لمائه. يعني : في حالة الجريان تشقّ البحر بحيزومها (٣). من المخر ، وهو شقّ الماء. وعن الفرّاء : هو صوت جري الفلك بالرياح.
(وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) من سعة رزقه بركوبها للتجارة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي : تعرفون نعم الله فتقومون بحقّها. ولعلّ تخصيصه بتعقيب الشكر ، لأنّه أقوى نعمة من نعم المنعم ، من حيث إنّه جعل مظانّ الهلاك سببا للانتفاع وتحصيل المعاش.
__________________
(١) الزعاق : الماء المرّ لا يطاق شربه.
(٢) الأنفال : ٥٥.
(٣) في هامش النسخة الخطّية : «هو وسط الصدر. منه».