أنواع ما يحتاج إليه من المطعوم والمشروب والملبوس والمفروش وغير ذلك ، فأنزل المعتمد يوسف بن تاشفين في أحدها ، وتولى من إكرامه وخدمته ما أوسع شكر ابن تاشفين له ، وكان مع ابن تاشفين أصحاب له ينبهونه على حسن تلك الحال وتأملها ، وما هي عليه من النعمة والإتراف ، ويغرونه باتخاذ مثلها ، ويقولون له : إن فائدة الملك قطع العيش فيه بالتنعم واللذة ، كما هو المعتمد وأصحابه ، وكان ابن تاشفين [داهية](١) عاقلا مقتصدا في أموره ، غير متطاول ولا مبذر ، غير سالك نهج الترف والتأنق في اللذة والنعيم ، إذ ذهب صدر عمره في بلاده بالصحراء في شظف العيش (٢) ، فأنكر على من أغراه بذلك الإسراف ، وقال له : الذي يلوح لي من أمر هذا الرجل ـ يعني المعتمد ـ أنه مضيّع لما في يده من الملك ، لأن هذه الأموال الكثيرة التي تصرف في هذه الأحوال لابد أن يكون لها أرباب لا يمكن أخذ هذا القدر منهم على وجه العدل أبدا ، فأخذه بالظلم وإخراجه في هذه التّرّهات من أفحش الاستهتار ، ومن كانت همته في هذا الحد من التصرف فيما لا يعدو الأجوفين متى يستجدّ همة (٣) في ضبط بلاده وحفظها؟ وصون رعيته والتوفير لمصالحها (٤) ، ولعمري لقد صدق في كل ذلك.
ثم إن يوسف بن تاشفين سأل عن أحوال المعتمد في لذاته : هل تختلف فتنقص عما عليه في بعض الأوقات؟ فقيل له : بل كل زمانه على هذا ، فقال : أفكلّ أصحابه وأنصاره على عدوّه ومنجديه على الملك ينال حظا من ذلك؟ فقالوا : لا ، قال : فكيف ترون رضاهم عنه؟ فقالوا : لا رضا لهم عنه ، فأطرق وسكت ، وأقام عند المعتمد على تلك الحال أياما.
وفي أثنائها استأذن رجل على المعتمد فدخل وهو ذو هيئة رثّة ، وكان من أهل البصائر ، فلما مثل بين يديه قال : أصلحك الله أيها السلطان! وإن من أوجب الواجبات شكر النعمة ، وإن من شكر النعمة إهداء النصائح ، وإني رجل من رعيتك حالي في دولتك إلى الاختلال ، أقرب منها إلى الاعتدال ، ولكنني مع ذلك مستوجب لك من النصيحة ما للملك على رعيته ، فمن ذلك خبر وقع في أذني من بعض أصحاب ضيفك هذا يوسف بن تاشفين يدلّ على أنهم يرون أنفسهم وملكهم أحقّ بهذه النعمة منك ، وقد رأيت رأيا ، فإن آثرت الإصغاء إليه قلته ، فقال المعتمد له : قله ، فقال له : رأيت أن هذا الرجل الذي أطلعته على ملكك مستأسد على الملوك ، قد حكم على رفقائه (٥) ببر العدوة ، وأخذ الملك من أيديهم ، ولم يبق على واحد منهم ، ولا يؤمن أن يطمح إلى الطمع (٦) في ملكك ، بل في ملك جزيرة الأندلس كلها ، لما قد
__________________
(١) «داهية» سقطت من بعض النسخ.
(٢) شظف العيش : خشونته.
(٣) في ب «تستنجد همته في ...».
(٤) في ب «والتوقير لمصالحها».
(٥) في ب ، ه «قد حطم على زناته ببر العدوة».
(٦) في ج «إلى المطمع».