عليهم ، فوقف في ذلك الملأ المغمور بالأضاليل ، ونادى بحيث يعي الجماهير حجته ، فعرّفهم أولا خسارة هذه الدنيا الفانية لمن تقلّب فيها ، فلا تعود عليهم إلا بالخيبة ، ثم تراجع ثانيا إلى التعريف بمنزلته من نبيّ الإسلام ، وشهادته له ولأخيه المجتبى بأنهما سيدا شباب أهل الجنة ، وناهيك بشهادة من لا ينطق عن الهوى ، وكان محبوّا بالوحي الإلهي ، أن تؤخذ ميزانا للتمييز بين الحق والباطل. وفي الثالثة عرّفهم بأنه يؤدي كل ما لهم عنده من مال وحرمات ، وفي الرابعة نشر المصحف الكريم على رأسه ودعاهم إلى حكمه. وحتى إذا لم تجد هذه النصائح القيّمة فيهم ، ووضح لديه إصرارهم على الغي والعناد لله تعالى ولرسولهصلىاللهعليهوآلهوسلم ، كشف الستار عن الإباء العلوي ، الّذي انحنت عليه أضالعه ، ورفع الحجاب عن الأنفة التي كان أبناء علي عليهالسلام يتدارسونها ليلا ونهارا ، وتلهج بها أنديتهم. فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«ألا وإن الدّعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين : بين السّلةّ والذلّة ، وهيهات منا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور طهرت ، وأنوف حميّة ، ونفوس أبيّة ، من أن تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام. ألا وإني زاحف بهذه الأسرة عليقلة العدد وخذلان الناصر».
هذه وصايا الشريعة المطهرة وأحكامها الباعثة على الدعوة إلى الحق والنهضة لسدّ باب الباطل ، وكما ألزمت جهاد المضلين المشركين ، أباحت ترك الجهاد للصبي والمقعد والأعمى والشيخ الكبير والمرأة والبالغ الّذي لم يأذن له أبواه. لكن مشهد (الطف) خرق ناموسها الأكبر وجاز تلك المقررات جريا على المصالح والأسرار التي قصرت عنها أحلام البشر ، وقد تلقّاها (أبيّ الضيم) عليهالسلام ، من جده المنقذ الأكبر وأبيه الوصيّ المقدّم. فالحسين عليهالسلام لم يشرّع سنّة أخرى في الجهاد ، وإنما هو درس إلهي أثبته اللوح الأقدس في عالم الإبداع ، محدد الظرف والمكان ، تلقّاه الأمين جبرئيل وأفاضه على حبيب الله وصفيه (محمّد) صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فأودعه صاحب الدعوة الإلهية عند ولده سيد الشهداء عليهالسلام. عليهالسلام.
فكل ما يشاهد في ذلك المشهد الدامي من الغرائب التي تنحسر عن الوصول إلى كنهها عقول الرجال ، فهو مما آثر المولى سبحانه به وليه وحجته أبا عبد الله الحسينصلىاللهعليهوآلهوسلم.