ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير ، فأرادوا به ذلك. ثمّ قالوا تهكّما به : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) لأنّهم قصدوا بذلك وصفه بضدّ ذلك ، وهو غاية السّفه والغيّ ، فعكسوا ليتهكّموا به ، كما يقال للشحيح : لو أبصرك حاتم لسجد لك. أو علّلوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنّه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.
(قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) حجّة واضحة (مِنْ رَبِّي) إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوّة (وَرَزَقَنِي مِنْهُ) من عنده وبإعانته ، بلا كدّ منّي في التحصيل (رِزْقاً حَسَناً) إشارة إلى ما آتاه الله تعالى من المال الحلال الطيّب غير مشوب بالنجس. وجواب الشرط محذوف ، تقديره : فهل يصحّ لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانيّة والجسمانيّة أن أخون في وحيه ، وأخالفه في أمره ونهيه؟ وهل يصحّ لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكفّ عن المعاصي ، والأنبياء لا يبعثون إلّا لذلك؟ وهو اعتذار عمّا أنكروا عليه من تغيير مألوفهم ، والنهي عن دين آبائهم.
(وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) أي : ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها وأختارها لنفسي ، فاستبدّ بها دونكم ، فلو كانت صوابا لآثرتها ولم أعرض عنها ، فضلا عن أن أنهى عنها. يقال : خالفت زيدا إلى كذا إذا قصدته وهو مولّ عنه ، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس.
(إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ) ما أريد إلّا أن أصلحكم أموركم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر (مَا اسْتَطَعْتُ) ما دمت أستطيع الإصلاح ، أي : فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه. و «ما» مصدريّة واقعة موقع الظرف ، اي : مدّة استطاعتي وتمكّني منه. وقيل : خبريّة بدل من لإصلاح ، أي : المقدار الّذي استطعته ، أو إصلاح ما استطعته ، فحذف المضاف.