فلا خفاء بما كانت عقدته أيدي التقوى ، ومهدته الرسائل التي على الصفاء تطوى ، بيننا وبين والدكم نعم الله روحه وقدّسه ، وبقربه مع الأبرار في عليين آنسه ، من مواخاة أحكمت منها العهود تالية الكتب والفاتحة ، وحفظ عليها محكم الإخلاص معوّذتاها المحبة والنية الصالحة ، فانعقدت على التقوى والرضوان ، واعتضدت بتعارف الأرواح عند تنازح الأبدان (١) ، حتى استحكمت وصلة الولاء ، والتأمت كلحمة النسب لحمة الإخاء ، فما كان إلا وشيكا من الزمان ، ولا عجب قصر زمن الوصلة أن يشكوه الخلان ، ورد وارد أورد رنق المشارب (٢) ، وحقق قول ومن «يسأل الركبان عن كل غائب» أنبأ باستئثار الله تعالى بنفسه الزكية ، وإكنان درته السنية ، وانقلابه إلى ما أعدّ له من المنازل الرضوانية ، بجليل ما وقر لفقده في الصدور ، وعظيم ما تأثرت له النفوس لوقوع ذلك المقدور ، حنانا للإسلام بتلك الأقطار ، وإشفاقا من أن يعتور (٣) قاصدي بيت الله الحرام من جراء الفتن عارض الإضرار ، ومساهمة في مصاب الملك الكريم ، والولي الحميم ، ثم عميت الأخبار ، وطويت طي السجل الآثار ، فلم نر مخبرا صدقا ، ولا معلما بمن استقر له ذلكم الملك حقا ، وفي أثناء ذلك حفزنا (٤) للحركة عن حضرتنا استصراخ أهل الأندلس وسلطانها ، وتواتر الأخبار بأن النصارى أجمعوا على خراب أوطانها ، ونحن أثناء ذلكم الشأن ، نستخبر الوراد من تلكم البلدان ، عما أجلي عنه ليل الفتن بتلكم الأوطان ، فبعد لأي وقعنا منها على الخبير ، وجاءنا بوقاية حرم الله بكم البشير ، وتعرفنا أن الملك استقر منكم في نصابه ، وتداركه الله تعالى منكم بفاتح الخير من أبوابه ، فأطفأ بكم نار الفتنة وأخمدها ، وأبرأ من أدواء (٥) النفاق ما أعل البلاد وأفسدها ، فقام سبيل الحج سابلا ، وتعبّد (٦) طريقه لمن جاء قاصدا وقافلا ، ولما احتفّت بهذا الخبر القرائن ، وتواتر بنقل الحاضر [له و] المعاين ، أثار حفظ الاعتقاد البواعث ، والود الصحيح تجره حقا الموارث ، فأصدرنا لكم هذه المخاطبة المتفننة الأطوار ، الجامعة بين الخبر والاستخبار ، الملبسة من العزاء والهناء ثوبي الشعار والدثار ، ومثل ذلكم الملك رضوان الله عليه من تجل المصائب لفقدانه ، وتحل عرا الاصطبار بموته ولات حين أوانه ، لكن الصبر أجمل ما ارتداه ذو عقل حصين ، والأجر أولى ما اقتناه ذو دين متين ، ومثلكم من لا يخفّ وقاره ، ولا يشف عن ظهور الجزع الحادث اصطباره ، ومن خلفكم فما مات ذكره ، ومن قمتم بأمره فما زال بل زاد فخره ، وقد طالت والحمد لله العيشة الراضية بالحقب ، وطاب بين مبداه ومحتضره هنيئا بما من الأجر اكتسب ،
__________________
(١) تنازح الأبدان : تباعدها وتنائيها.
(٢) في ب «ورد وارد رنق المشارب».
(٣) يعتور : هنا يصيب بشكل متواصل.
(٤) في ب «أخفرنا للحركة».
(٥) الأدواء : الأمراض.
(٦) تعبد : تمهد.