واتخذنا رؤوسهم لصوالج القوائم كرات ، وفرجنا مضايق الحرب بتوالي الكرّات ، وعطفنا عليهم (١) الأعنّة ، وخضنا جداول السيوف ودسنا شوك الأسنّة ، وفلقنا الصخرات بالصرخات ، وأسلنا العبرات بالرعبات ، ولكن أين الغاية من هذا المدى المتطاول؟ وأين الثريا من يد المتناول؟ وما لنا غير إمدادكم بجنود الدعاء الذي نرفعه نحن ورعايانا ، والتوجّه الصادق الذي تعرفه ملائكة القبول من سجايانا.
وأما ما فقدتموه من الأجفان التي طرقها طيف التلاف ، وأمّ حرم فنائها الفناء وطاف به بعد الإلطاف ، فقد روّع هذا الخبر قلب الإسلام ، ونوّع له الحزن على اختلاف الإصباح والإظلام ، وهذه الدار ما يخلو صفوها من كدر القدر ، وطالما أنامت بالأمن أوّل الليل وخاطبت بالخطب في السّحر (٢) ، ولكن في بقائكم ما يسلي من خطب العطب ، ومع سلامة نفسكم الكريمة فالأمر هين لأن الدر يفدى بالذهب.
وأما ما رأيتموه من الصلح فرأى عقده مبارك ، وأمر ما فيه فارط عزم وإن كان فيتدارك ، والأمر يجيء كما يحب لا كما نحب ، والحروب يزورها نصرها تارة ويغب (٣) ، ومع اليوم غدا ، وقد يردّ الله الردى ، ويعيد الظفر بالعدا.
وأما عودكم إلى فاس المحروسة طلبا لإراحة من عندكم من الجنود ، وتجهيزا لمن يصل من عندكم إلى الحجاز الشريف من الوفود ، فهذا أمر ضروري التدبير ، سروري التثمير ، لأن النفوس تمل وثير المهاد ، فكيف ملازمة صهوات الجياد ، وتسأم من مجالسة الشّرب (٤) ، فكيف بممارسة الحرب ، وتعرض عن دوام اللذة ، فكيف بمباشرة المنايا الفذّة (٥) ، وهذا جبل طارق الذي فتح الله به عليكم ، وساق هدى هديته إليكم ، لعله يكون سببا إلى ارتجاع ما شرد ، وحسما لهذا الطاغية الذي مرد ، وردّا لهذا النازل الذي قدم ورد الصبر لما ورد ، فعادة الألطاف الإلهية بكم معروفة ، وعزماتكم إلى جهات الجهاد مصروفة ، وقد تفاءلنا لكم من هذا الجبل بأنه طارق خير من الرحمن يطرق ، وجبل يعصم من سهم يمر من قسيّ الكفار ويمرق.
وأما ما منحتموه من الخيل العتاق ، والملابس التي تطلع بدور الوجوه من مشارق الأطواق ، والأموال التي زكت عند الله تعالى ونمت على الإنفاق ، فعلى الله عز وجل خلفها ،
__________________
(١) في ب ، ه «وعطفنا إليهم الأعنة».
(٢) الخطب : المصيبة. والسحر : آخر الليل قبيل الفجر.
(٣) يغب : يزور مرة ويترك مرة. ومنه الحديث «زر غبا تزدد حبا».
(٤) الشّرب : الجماعة الشاربون.
(٥) الفذ : الفرد وأراد بالمنايا الفذة : التي لا مثيل لها ، لقساوتها.