الأطول كهلها وفتاها ، وأنذر بها في القوم بحران أنيجه (١) ، يوم أثاروا أسدها المهيجة ، فكانت تلك الحطمة طلّ الشؤبوب (٢) ، وباكورة البلاء المصبوب ، أثكلتنا إخوانا أبكانا نعيهم ، ولله أحوذيّهم وألمعيّهم ، ذاك أبو ربيعنا ، وشيخ جميعنا ، سعد بشهادة يومه ، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه ، وبعد ذلك أخذ من الأم بالمخنّق ، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق ، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان ، وأخرج من جسدها روح الإيمان ، فبرح الخفاء ، وقيل : على آثار منح ذهب العفاء ، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء ، فأودت الخفة والحصافة ، وذهب الجسر والرصافة ، ومزقت الحلة والشملة ، وأوحشت الجرف والرملة ، ونزلت بالحارة وقعة الحرّة ، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظبائها على طول الحسرة ، فأين تلك الخمائل ونضرتها ، والجداول وخضرتها ، والأندية وأرجها (٣) ، والأودية ومنعرجها ، والنواسم وهبوب مبتلّها ، والأصائل وشحوب معتلها ، دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها ، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها تردّدها وحيرتها ، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها ، حتى أحاطت بجزيرة شقرها ، فآها لمسقط الرأس هوى نجمه ، ولفادح الخطب (٤) سرى كلمه ، ويا لجنة أجرى الله تعالى النهر تحتها ، وروضة أجاد أبو إسحاق (٥) نعتها ، وإنما كانت داره التي فيها دبّ ، وعلى أوصاف محاسنها أكب ، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب ، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه ، ودمعهم عليها أراقوه ، وقد أثبت من النظم ما يليق بهذا الموضع ، وإن لم يكن له ذلك الموقع : [الطويل]
أقلّوا ملامي أو فقولوا وأكثروا |
|
ملومكم عما به ليس يقصر |
وهل غير صبّ ما تني عبراته |
|
إذا صعدت أنفاسه تتحدّر (٦) |
يحن وما يجدي عليه حنينه |
|
إلى أربع معروفها متنكّر |
ويندب عهدا بالمشقّر فاللّوى |
|
وأين اللوى منه وأين المشقّر |
__________________
(١) في ه «وأنذرها في القوم بحران أينجة». والبحران : المرض ، وأراد أن مرض أنيجة كان إنذارا بسقوط بلنسية.
(٢) الشؤبوب : الدفعة القوية من المطر.
(٣) الأرج : الريح العطرة الطيبة.
(٤) فادح الخطب : عظيم المصيبة. والكلم : الجرح.
(٥) أبو إسحاق : هو ابن خفاجة وهو من جزيرة شقر.
(٦) ما تني : ما تفتر ولا تضعف ، والعبرات : الدموع.