عاطيته حمراء ممزوجة |
|
كأنها تعصر من وجنتيه |
وخرج من بلنسية يوما إلى منية الوزير الأجلّ أبي بكر ابن عبد العزيز ، وهي من أبدع منازل الدنيا ، وقد مدّت عليها أدواحها الأفيا ، وأهدت إليها أزهارها العرف والرّيّا ، والنهر قد غصّ بمائه ، والروض قد خصّ بمثل أنجم سمائه ، وكانت لبني عبد العزيز فيها أطراب ، تهيّأ لهم فيها من الأيام آراب ، فلبسوا فيها الأنس (١) حتى أبلوه ، ونشروا فيها الحظ (٢) وطووه ، أيام كانوا بذلك الأفق طلوعا ، لم تضمّ عليهم النّوب ضلوعا ، فقعد أبو عبد الله مع لمّة من الأدباء تحت دوحة من أدواحها ، فهبّت ريح أنس من أرواحها ، سطت بإعصارها ، وأسقطت لؤلؤها على باسم أزهارها ، فقال : [مخلع البسيط]
ودوحة قد علت سماء |
|
تطلع أزهارها نجوما |
هفا نسيم الصّبا عليها |
|
فأرسلت فوقنا رجوما |
كأنما الجوّ غار لمّا |
|
بدت فأغرى بها النسيما |
وكان في زمان عطلته ، ووقت اصفراره وعلّته ، ومقاساته من العيش أنكده ، ومن التخوّف أجهده ، كثيرا ما ينشرح بجزيرة شقر ويستريح ، ويستطيب هبوب (٣) تلك الريح ، ويجول في أجارع واديها ، وينتقل من نواديها إلى بواديها ، فإنها صحيحة الهواء ، قليلة الأدواء ، خضلة العشب والأزاهر ، قد أحاط بها نهرها كما تحيط بالمعاصم الأساور ، والأيك قد نشرت ذوائبها على صفحيه ، والروض قد عطّر جوانبه بريحه ، وأبو إسحاق ابن خفاجة هو كان منزع نفسه ، ومصرع أنسه ، نفح له بالمنى عبق وشذا ، ومسح عن عيونه مسرّاته القذى ، وغدا على ما كان وراح ، وجرى متهافتا في ميدان ذلك المراح ، قريب عهد بالفطام ، ودهره ينقاد في خطام ، فلمّا اشتعل رأسه شيبا ، وزرّت عليه الكهولة جيبا ، أقصر عن تلك الهنات ، واستيقظ من تلك السّنات ، وشبّ عن ذلك الطّوق ، وأقصر عن الهوى والشوق ، وقنع بأدنى تحيّة ، وما يشعره في وصف تلك العهاد من أريحيّه ، فقال : [الطويل]
ألا خلّياني والأسى والقوافيا |
|
أردّدها شجوا وأجهش باكيا (٤) |
__________________
(١) في ب : «فلبسوا فيها الأشر ..».
(٢) في ب : «ونشروا فيها الأنس وطووه» وفي ه : «ونشروا فيها السرور وطووه».
(٣) كلمة «هبوب» ساقطة من ب.
(٤) في ب ، ج : «أرددها شجوي». والشجو : الحزن والهم. وأجهش باكيا : بكى بصوت عال.