وحضر يوما مجلس ابن ذي النون ، فقدّم نوع من الحلوى يعرف بآذان القاضي ، فتهافت جماعة من خواصّه عليها يقصدون التندير فيه ، وجعلوا يكثرون من أكلها ، وكان فيما قدم من الفاكهة طبق فيه نوع يسمى عيون البقر ، فقال له المأمون : يا قاضي ، أرى هؤلاء يأكلون أذنيك ، فقال : وأنا أيضا آكل عيونهم ، وكشف عن الطبق ، وجعل يأكل منه ، وكان هذا من الاتفاق الغريب.
وكان الفاضل أبو الحسين ابن الوزير أبي جعفر الوقشي آية الله في الظرف ، وكيف لا ووالده الوزير أبو جعفر ، وصهره أبو الحسين بن جبير ، وشيخه في علم الموسيقى والتهذيب والظرف والتدريب أبو الحسين (١) بن الحسن بن الحاسب شيخ هذه الطريقة ، وقد رزق أبو الحسن المذكور فيها ذوقا مع صوت بديع ، أشهى من الكأس للخليع ، قال أبو عمران بن سعيد : ما سمعته إلّا تذكّرت قول الرصافي (٢) : [الكامل]
ومطارح ممّا تجسّ بنانه |
|
لحنا أفاض عليه ماء وقاره |
يثني الحمام فلا يروح لو كره |
|
طربا ورزق بنيه في منقاره |
وكنت أرتاح إلى لقائه ، ارتياح العليل إلى شفائه ، ولم أزل أقرع بابا (٣) بابا ، وأخرق للاتصال حجابا حجابا ، حتى هجمت مع شفيع لا يرد عليه ، وجلست بين يديه ، فحينئذ حرّضه حسبه على الإكرام ، وتلقّى بما أوسع من البشر والسلام ، وقال : ليعلم سيدي أني كنت أودّ الناس في لقائه ، وأحبّهم في إخائه ، والحمد لله الذي جعلني أنشد : [الطويل]
وليس الذي يتّبّع الوبل رائدا |
|
كمن جاءه في داره رائد الوبل (٤) |
ثم قام إلى خزانة ، فأخرج منها عود غناء يطرب دون أن تحبس أوتاره ، وتلحن أشعاره ، واندفع يغنّي دون أن أسأله ذلك ، ولا أتجشّم تكليفه الدخول في تلك المسالك : [الطويل]
وما زلت أرجو في الزمان لقاءكم |
|
فقد يسّر الرحمن ما كنت أرتجي |
__________________
(١) في ب ، ه «ونسخة عند ج : «أبو الحسن بن الحسن بن الحاسب».
(٢) انظر ديوان الرصافي ص ١٠١.
(٣) في ب ، ه : «ولم أزل أقرع بابا فبابا» وفيها «حجابا فحجابا».
(٤) في أ: «وليس الذي يستتبع الوبل رائدا» وقد أثبتنا ما في ب ، ه ، وديوان أبي الطيب المتنبي وهذا من قصيدة له أولها :
كدعواك كل يدعي صحة العقل |
|
ومن ذا الذي يدري بما فيه من جهل |
انظر ديوان المتنبي بشرح العكبري ج ٣ ص ٢٩٤.