ومن أخبار ولادة مع ابن زيدون ما قاله الفتح في القلائد (١) : إنّ ابن زيدون كان يكلف بولادة ويهيم ، ويستضيء بنور محيّاها في الليل البهيم ، وكانت من الأدب والظرف ، وتتميم السمع والطرف ، بحيث تختلس القلوب والألباب ، وتعيد الشّيب إلى أخلاق الشباب ، فلمّا حل بذلك الغرب ، وانحلّ عقد صبره بيد الكرب ، فرّ إلى الزهراء ليتوارى في نواحيها ، ويتسلّى برؤية موافيها ، فوافاها والربيع قد خلع عليها برده ، ونشر سوسنه وورده ، وأترع جداولها ، وأنطق بلابلها ، فارتاح ارتياح جميل (٢) بوادي القرى ، وراح بين روض يانع وريح طيّبة السّرى ، فتشوّق إلى لقاء ولادة وحنّ ، وخاف تلك النوائب والمحن ، فكتب إليها يصف فرط قلقه ، وضيق أمده إليها وطلقه ، [ويعلمها أنه ما سلا عنها بخمر ، ولا خبا ما في ضلوعه من ملتهب الجمر](٣) ، ويعاتبها على إغفال تعهّده ، ويصف حسن محشره بها ومشهده : [البسيط]
إني ذكرتك بالزهراء مشتاقا |
|
والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا |
وللنسيم اعتلال في أصائله |
|
كأنما رقّ لي فاعتلّ إشفاقا (٤) |
والروض عن مائه الفضّيّ مبتسم |
|
كما حللت عن اللبّات أطواقا (٥) |
يوم كأيام لذّات لنا انصرمت |
|
بتنا لها حين نام الدهر سرّاقا |
نلهو بما يستميل العين من زهر |
|
جال الندى فيه حتى مال أعناقا |
كأنّ أعينه إذ عاينت أرقي |
|
بكت لما بي فجال الدمع رقراقا |
ورد تألّق في ضاحي منابته |
|
فازداد منه الضّحى في العين إشراقا |
سرى ينافحه نيلوفر عبق |
|
وسنان نبّه منه الصبح أحداقا (٦) |
كلّ يهيج لنا ذكرى تشوّقنا |
|
إليك ، لم يعد عنها الصدر أن ضاقا |
لو كان وفّى المنى في جمعنا بكم |
|
لكان من أكرم الأيام أخلاقا |
لا سكّن الله قلبا عنّ ذكركم |
|
فلم يطر بجناح الشوق خفاقا |
لو شاء حملي نسيم الريح حين هفا |
|
وافاكم بفتى أضناه ما لاقى |
__________________
(١) القلائد ص ٧٣.
(٢) جميل : هو جميل بثينة الشاعر الغزل المعروف.
(٣) في ب ، ه : «ملتهب جمر».
(٤) اعتلّ : أصبح عليلا ، أي طريا.
(٥) اللبات : جمع لبة ، وهي موضع القلادة من الصدر.
(٦) النيلوفر : زهر يطفو على وجه الماء.