ومنعوا جفون أهلها السّنات ، وأخذوا البنين من حجور آبائهم والبنات ، وتلقّبوا بالإمارة ، وأركبوا السوء نفوسهم الأمّارة ، حتى كادت أن تقفر على أيديهم ، وتدثر رسومها بإفراط تعدّيهم ، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه تعالى أمرهم ، وأطفأ جمرهم ، وأوجعهم ضربا ، وأقطعهم ما شاء حزنا وكربا ، وسجنهم بأغمات ، وضمّتهم جوانح الملمّات ، والمعتمد إذ ذاك معتقل هناك ، وكانت فيهم طائفة شعرية ، مذنبة أو بريّة (١) ، فرغبوا إلى سجّانهم ، أن يستريحوا مع المعتمد من أشجانهم ، فخلّى ما بينهم وبينه ، وغمض لهم في ذلك عينه ، فكان المعتمد رحمه الله تعالى يتسلّى بمجالستهم ، ويجد أثر مؤانستهم ، ويستريح إليهم بجواه ، ويبوح لهم بسرّه ونجواه ، إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم ، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم ، وبقي المعتمد في محبسه يشتكي من ضيق الكبل ، ويبكي بدمع كالوبل ، فدخلوا عليه مودعين ، ومن بثّه متوجّعين ، فقال : [الطويل]
أما لانسكاب الدمع في الخدّ راحة |
|
لقد آن أن يفنى ، ويفنى به الخدّ |
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتلى |
|
بما منه قد عافاكم الصّمد الفرد |
تخلّصتم من سجن أغمات والتوت |
|
عليّ قيود لم يحن فكّها بعد |
من الدّهم أمّا خلقها فأساود |
|
تلوّى وأما الأيد والبطش فالأسد (٢) |
فهنيتم النعما ، ودامت لكلكم |
|
سعادته إن كان قد خانني سعد |
خرجتم جماعات وخلّفت واحدا |
|
ولله في أمري وأمركم الحمد |
ومرّ عليه في موضع اعتقاله سرب قطا لم يعلق لها جناح ، ولا تعلّق بها من الأيام جناح ، ولا عاقها عن أفراخها الأشراك (٣) ، ولا أعوزها البشام ولا الأراك ، وهي تمرح في الجو ، وتسرح في مواقع النو ، فتنكّد بما هو فيه من الوثاق ، وما دون أحبّته من الرقباء والأغلاق ، وما يقاسيه من كبله ، ويعانيه من وجده وخبله ، وفكّر في بناته وافتقارهنّ إلى نعيم عهدنه ، وحبور حضرنه وشهدنه ، فقال : [الطويل]
بكيت إلى سرب القطا إذ مررن بي |
|
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل |
ولم تك ، والله المعيد ، حسادة |
|
ولكن حنينا أنّ شكلي لها شكل (٤) |
__________________
(١) برية : أي بريئة ، سهلت الهمزة بقلبها ياء ثم أدغمت في الياء.
(٢) الأيد : القوة.
(٣) الأشراك : جمع شرك ، وهو الفخ.
(٤) في ب : «والله المعيذ».