استزقنا السمع فسمعنا الأذفونش يقول لأصحابه : ابن عباد مسعر هذه الحروب (١) ، وهؤلاء الصحراويون وإن كانوا أهل حفاظ وذوي بصائر في الحروب فهم غير عارفين بهذه البلاد ، وإنما قادهم ابن عباد ، فاقصدوه واهجموا عليه ، واصبروا ، فإن انكشف لكم هان عليكم الصحراويون بعده ، ولا أرى ابن عباد يصبر لكم إن صدقتموه الحملة ، فعند ذلك بعث ابن عباد الكاتب أبا بكر بن القصيرة إلى السلطان يوسف يعرفه بإقبال الأذفونش ، ويستحث نصرته ، فمضى ابن القصيرة يطوي المحلات حتى جاء يوسف بن تاشفين ، فعرفه بجليّة الأمر ، فقال له : قل له : إني سأقرب منه إن شاء الله تعالى ، وأمر يوسف بعض قواده أن يمضي بكتيبة رسمها له حتى يدخل محلة النصارى فيضرمها نارا ما دام الأذفونش مشتغلا مع ابن عباد ، وانصرف ابن القصيرة إلى المعتمد ، فلم يصله إلا وقد غشيته جنود الطاغية ، فصدم ابن عباد صدمة قطعت آماله ، ومال الأذفونش عليه بجموعه ، وأحاطوا به من كل جهة ، فهاجت الحرب ، وحمي الوطيس (٢) ، واستحرّ (٣) القتل في أصحاب ابن عباد ، وصبر ابن عباد صبرا لم يعهد مثله لأحد ، واستبطأ السلطان يوسف وهو يلاحظ طريقه ، وعضته الحروب (٤) ، واشتد عليه وعلى من معه البلاء ، وأبطأ عليه الصحراويون وساءت الظنون ، وانكشف بعض أصحاب ابن عباد وفيهم ابنه عبد الله ، وأثخن ابن عباد جراحات ، وضرب على رأسه ضربة فلقت هامته حتى وصلت إلى صدغه وجرحت يمنى يديه ، وطعن في أحد جانبيه ، وعقرت تحته ثلاثة أفراس كلما هلك واحد قدّم له آخر ، وهو يقاسي حياض الموت ، ويضرب يمينا وشمالا ، وتذكر في تلك الحالة ابنا له صغيرا كان مغرما به تركه في إشبيلية عليلا ، وكنيته أبو هاشم فقال : [المتقارب]
أبا هاشم هشّمتني الشّفار |
|
فلله صبري لذاك الأوار (٥) |
ذكرت شخيصك تحت العجاج |
|
فلم يثنني ذكره للفرار |
ثم كان أوّل من وافى ابن عباد من قوّاد ابن تاشفين داود بن عائشة ، وكان بطلا شجاعا شهما ، فنفّس بمجيئه عن ابن عباد ، ثم أقبل يوسف بعد ذلك ، وطبوله تصعد أصواتها إلى الجوّ ، فلما أبصره الأذفونش وجه حملته إليه ، وقصده بمعظم جنوده ، فبادر إليهم السلطان
__________________
(١) مسعر الحروب : مؤججها ومقوي نارها.
(٢) حمي الوطيس : اشتدت الحرب وأول من استعملها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(٣) استحرّ القتل : أي كثر واشتد.
(٤) في ب ، والروض «وعضته الحرب».
(٥) هشمتني : حطمتني ، كسرتني. والشفار : جمع شفرة ، وأراد بها هنا السيوف. والأوار : حرّ النار.