فأخذت العود ، وقعدت تسويه ، وإني لأتأمل دمعها يقطر على خدها ، فتسارق العلج مسحه ، واندفعت تغني بشعر ما فهمته أنا فضلا عن العلج ، فصار من الغريب أن حثّ شربه هو عليه (١) ، وأظهر الطرب منه ، فلما يئست مما عنده قمت منطلقا عنه ، وارتدت لتجارتي سواه ، واطلعت لكثرة ما لدي القوم من السبي والمغنم على ما طال عجبي به ، فهذا فيه مقنع لمن تدبره ، وتذكر لمن تذكره.
قال ابن حيان : قد أشفينا بشرح هذه الحالة (٢) الفادحة مصائب جليلة مؤذنة بوشك القلعة طالما حذر أسلافنا لحاقها بما احتملوه عمن قبلهم من أثارة (٣) ، ولا شك عند ذوي الألباب أن ذلك مما دهانا من داء التقاطع وقد أمرنا بالتواصل والألفة ، فأصبحنا من استشعار ذلك والتمادي عليه على شفا جرف يؤدي إلى الهلكة لا محالة. انتهى ببعض اختصار.
وذكر بعده كلاما في ذم أهل ذلك الزمان من أهل الأندلس ، وأنهم يعللون أنفسهم بالباطل ، وأن من أدل الدلائل على جهلهم اغترارهم بزمانهم ، وبعدهم عن طاعة خالقهم ، ورفضهم وصية نبيهم ، وغفلتهم عن سدّ ثغورهم ، حتى أطل عدوّهم الساعي لإطفاء نورهم ، يجوس خلال ديارهم ، ويستقري بسائط بقاعهم ، ويقطع كل يوم طرفا ، ويبيد أمة ، ومن لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صموت عن ذكرهم ، لهاة عن بثهم (٤) ، ما إن سمع عندنا بمسجد من مساجدنا أو محفل من محافلنا ، مذكر لهم أو داع ، فضلا عن نافر إليهم أو ماش لهم ، حتى كأنهم ليسوا منا أو كأنّ بثقهم (٥) ليس بمفض إلينا ، وقد بخلنا عليهم بالدعاء بخلنا عليهم بالغناء ، عجائب فاتت التقدير ، وعرضت للتغيير ، ولله عاقبة الأمور ، وإليه المصير.
ولقد صدق رحمه الله تعالى ، فإن البثق سرى إليهم جميعا كما ستراه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقال قبله : إن بر بشتر هذه تناسختها قرون المسلمين منذ ثلاثمائة وثلاث وستين سنة ، من عهد الفتوح الإسلامية بجزيرة الأندلس ، فرسخ فيها الإيمان ، وتدورس القرآن ، إلى أن طرق الناعي بها قرطبتنا صدر رمضان من العام ، فصك الأسماع ، وأطار الأفئدة ، وزلزل أرض الأندلس قاطبة ، وصير لكلّ شغلا يشغل الناس في التحدث به ، والتساؤل عنه ، والتصور لحلول مثله ، أياما لم يفارقوا فيها عادتهم من استبعاد الوجل (٦) ، والاغترار بالأمل ، والاستناد
__________________
(١) حث شربه : سرّعه.
(٢) في ب «الحادثة».
(٣) في ه «من إشارة».
(٤) البث : شدة الحزن.
(٥) البثق : الخرق.
(٦) استبعاد الوجل : استبعاد الخوف.