ولا قلامة ظفر ، إذن فمن سلمت له نفسه التي هي رأس ماله ، وعياله وأطفاله اللذان هما من أعظم آماله ، وكلّ أو جلّ أو أقل رياشه ، وأسباب معاشه الكفيلة بانتهاضه وانتعاشه ، ثم وجد مع ذلك سبيلا إلى الخلاص ، في حال مياسرة ومساهلة دون تصعب واعتياص (١) ، بعد ما ظن كل الظن أن لا محيد ولا مناص ، فما أحقّه حينئذ وأولاه ، أن يحمد خالقه ورازقه ومولاه ، على ما أسداه إليه من رفده وخيره ، ومعافاته مما ابتلي به كثير من غيره ، ويرضى بكل إيراد وإصدار ، تتصرف فيهما (٢) الأحكام الإلهية والأقدار ، فالدهر غدّار ، والدنيا دار مشحونة بالأكدار ، والقضاء لا يرد ، ولا يصدّ ، ولا يغالب ، ولا يطالب ، والدائرات تدور ، ولا بدّ من نقص وكمال للبدور ، والعبد مطيع لا مطاع ، وليس يطاع إلا المستطاع ، وللخالق القدير جلت قدرته في خليقته علم غيب للأذهان عن مداه انقطاع.
وما لي والتكلف لما لا أحتاج إليه من هذا القول ، بين يدي ذي الجلال والمجادة والفضل والطّول (٣)؟ فله من العقل الأرجح ، ومن الخلق الأسجح ، ما لا تلتاط معه تهمتي بصفره (٤) ، ولا تنفق عنده وشاية الواشي لا عدّ من نفره ، ولا فاز قدحه بظفره ، والمولى يعلم أن الدنيا تلعب باللاعب ، وتجر براحتها إلى المتاعب ، وقديما للأكياس من الناس خدعت ، وانحرفت عن وصالهم أعقل ما كانوا وقطعت ، وفعلت بهم ما فعلت بيسار الكواعب (٥) تلك التي جبّت وجدعت (٦) ، ولئن رهصت وهصرت ، فقد نبهت وبصّرت ، ولئن قرعت ومعضت (٧) ، لقد أرشدت ووعظت ، ويا ويلنا من تنكرها لنا بمرة ، ورميها لنا في غمرة أيّ غمرة ، أيام قلبت لنا ظهر المجنّ ، وغيم أفقها المصحي وأدجن ، فسرعان ما عاينا حبالها منبتّة ، ورأينا منها ما لم نحتسب كما تقوم الساعة بغتة ، فمن استعاذ من شيء فليستعذ مما صرنا إليه من الحور بعد الكور ، وانحطاط (٨) من النجد إلى الغور. [الطويل]
فبينا نسوس النّاس والأمر أمرنا |
|
إذا نحن فيهم سوقة نتنصّف (٩) |
__________________
(١) اعتاص اعتياصا الأمر : اشتد وخفي وصعب.
(٢) في ه «تتصرف بها».
(٣) الطول ـ بفتح الطاء وسكون الواو : القوة.
(٤) لا تلتاط معه تهمتي بصفره : أي لا تتعلق تهمتي بقلبه.
(٥) إشارة إلى يسار العبد الذي تعرض لبنت سيده ، فدهنت استه زيتا وربطته قريبا من قرية النمل فأكل النمل أنثييه.
(٦) جبت وجدعت : قطعت.
(٧) في ب «وأمعضت».
(٨) في ب «والانحطاط».
(٩) نتنصف : نسأل أن ينصفنا الناس.