قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ) أي : أمهلتها مع استمرارهم على ظلمهم ، فاغتروا بذلك التأخير ، (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ) بأن أنزلت العذاب بهم ومع ذلك فعذابهم مدخر ، وهو معنى قوله (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ). فإن قيل : ما الفائدة في قوله أولا «فكأين» بالفاء ، وهاهنا قال «وكأين» بالواو؟
فالجواب : أن الأولى وقعت بدلا من قوله (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) ، وأما هذه فحكمها ما تقدمها من الجملتين المعطوفتين بالواو ، أعني قوله : (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ)(١).
قوله : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أمر رسوله بأن يديهم لهم التخويف والإنذار ، وأن لا يصده استعجالهم للعذاب على سبيل الهزء عن إدامة التخويف والإنذار ، وأن يقول لهم: إنما بعثت للإنذار (٢) فاستهزاؤكم بذلك لا يمنعني منه (٣).
قوله : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ). لما أمر الرسول بأن يقول لهم : إني نذير مبين أردف ذلك بأن أمره بوعدهم ووعيدهم ، لأن هذه صفة المنذر (٤) ، فقال (٥) : (فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فجمع بين الوصفين ، وهذا يدل على أن العمل خارج عن مسمى الإيمان ، وبه يبطل قول المعتزلة ويدخل في الإيمان كل ما يجب من الاعتقاد بالقلب والإقرار باللسان ، ويدخل في العمل الصالح كل واجب وترك المحظور (٦) ، ثم بين تعالى أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم ، فالمغفرة عبارة عن غفران الصغائر ، أو عن غفران الكبائر بعد التوبة ، أو عن غفرانها قبل التوبة ، والأولان واجبان عند الخصم ، وأداء الواجب لا يسمى غفرانا فبقي الثالث وهو العفو عن أصحاب الكبائر من أهل القبلة. وأما الرزق الكريم فهو إشارة إلى الثواب (٧) ، والكريم : هو الذي لا ينقطع أبدا وقيل : هو الجنة (٨).
قوله : (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ) أي : اجتهدوا في ردها والتكذيب بها وسموها سحرا وشعرا وأساطير الأولين ، يقال لمن بذل جهده في أمر : إنه سعى فيه توسعا ، كما إذا بلغ الماشي نهاية طاقته فيقال : إنه سعى ، وذكر الآيات وأراد التكذيب بها مجازا (٩) ، قال الزمخشري : يقال : سعيت في أمر فلان إذا أصلحه أو أفسده بسعيه (١٠).
قوله : «معجّزين» قرأ أبو عمرو وابن كثير بتشديد الجيم هنا وفي حرفي سبأ (١١).
__________________
(١) انظر الكشاف ٣ / ٣٦ ، الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.
(٢) في ب : الإنذار. وهو تحريف.
(٣) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧.
(٤) في الأصل : المنعمد.
(٥) فقال : سقط من ب :.
(٦) في ب : محظور.
(٧) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٧ ـ ٤٨.
(٨) انظر البغوي ٥ / ٥٩٩.
(٩) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٤٨.
(١٠) الكشاف ٣ / ٣٦.
(١١) وهما قوله تعالى : «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ»[سبأ : ٥] وقوله ـ