ثم (١) سمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه بالهلاك فأهلكهم الله بالطوفان فندم على ذلك.
وقيل : لمراجعة ربه في شأن ابنه. وقيل : لأنه مر بكلب مجذوم ، فقال له : اخسأ يا قبيح ، فعوتب على ذلك ، وقال الله تعالى : أعبتني إذ خلقته ، أم عبت الكلب ، وهذه وجوه متكلفة ، لأن الأعلام لا تفيد صفة في المسمى (٢).
قوله : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) : وحّدوه (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) أي : أنّ عبادة غير الله لا تجوز إذ لا إله سواه. وقرىء «غيره» (٣) بالرفع على المحل ، وبالجر على اللفظ (٤).
ثم إنه لمّا لم ينفع فيهم الدعاء واستمروا على عبادة غير الله حذرهم بقوله : (أَفَلا تَتَّقُونَ) زجرهم وتوعدهم باتقاء العقوبة لينصرفوا عما هم عليه (٥) ثم إنه تعالى حكى عنهم شبههم في إنكار نبوة نوح ـ عليهالسلام (٦) ـ : وهي قولهم : (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) وهذه الشبهة تحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقال : إنه لمّا كان سائر الناس في القوة والفهم والعلم والغنى والفقر والصحة والمرض سواء امتنع كونه رسولا لله ، لأنّ الرسول لا بدّ وأن يكون معظما عند الله وحبيبا (٧) له ، والحبيب لا بد وأن يختص عن غير الحبيب بمزيد الدرجة والعزة ، فلما انتفت هذه الأشياء علمنا انتفاء الرسالة.
والثاني : أن يقال : إن هذه الإنسان مشارك لكم في جميع الأمور ، ولكنه أحب الرياسة (٨) والمتبوعية فلم يجد إليهما (٩) سبيلا إلا بادعاء النبوة ، فصار ذلك شبهة لهم في القدح في نبوته ، ويؤكد هذا الاحتمال قولهم : (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي : يطلب الفضل (١٠) عليكم ويرأسكم (١١).
الشبهة الثانية : قولهم : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) أي : ولو شاء الله أن لا يتعبد سواه لأنزل ملائكة بإبلاغ الوحي ، لأنّ بعثة الملائكة أشد إفضاء إلى المقصود من بعثة البشر ، لأن الملائكة لعلو شأنهم وشدة سطوتهم ، وكثرة علومهم ينقاد الخلق إليهم ، ولا يشكون في رسالتهم فلمّا لم يفعل ذلك علمنا أنه ما أرسل رسولا (١٢).
__________________
(١) في ب : و.
(٢) آخر ما نقله هنا عن الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.
(٣) «غيره» : سقط من الأصل.
(٤) والقراءة بالجر قراءة الكسائي وأبي جعفر ، والباقون بالرفع ف «غيره» بالجر صفة ل «إله» على اللفظ ، وبالرفع على محل «إله» السبعة (٢٨٤) ، الكشف ١ / ٤٦٧ ، الكشاف ٣ / ٤٥ ، الإتحاف ٣١٨.
(٥) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.
(٦) في ب : عليه الصلاة والسلام.
(٧) في ب : حبيبا.
(٨) في ب : الرسالة. وهو تحريف.
(٩) في الأصل : لها. وفي ب : إليها. والصواب ما أثبته.
(١٠) في ب : الفصلى. وهو تحريف.
(١١) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢ ـ ٩٣.
(١٢) انظر الفخر الرازي ٢٣ / ٩٢.